“أقشور”.. جَنّة من الجمال الطبيعي وعشق السيّاح الباحثين عن حضن الطبيعة الجبلية وبحيرات المياه العذبة

admin9 أغسطس 2025آخر تحديث :
“أقشور”.. جَنّة من الجمال الطبيعي وعشق السيّاح الباحثين عن حضن الطبيعة الجبلية وبحيرات المياه العذبة


في حضن جبال الريف، شمال المغرب، وبين الانحدارات الصخرية والطبيعة البكر، تقف “أقشور” بتراب جماعة “تَلَمبوط”، شامخة كمضرب مَثل في الجمال الطبيعي غير المُدجّن، في مكان ما بين شفشاون وسماء الله الواسعة، حيث تكتفي الطبيعة بإهدائك صوت خرير الماء لتُخبرك أنك وصلت إلى مكان مختلف، لا يشبه في شيء ما نعرفه عن السياحة المعتادة.

البحيرات التي تشكلها المياه العذبة من الجبال المحيطة بأقشور تجذب “السياحة العائلية” خلال فصل الصيف

هناك لا تصافحك واجهات الفنادق، بل يدلك على الطريق دخانُ الشواء والطواجن المتصاعد من نار الحطب، ورائحة النعناع البري، وزرقة السماء التي تنعكس في أعين الأطفال. أقشور ليست مجرد وجهة طبيعية، بل هي تجربة ساحرة للمرور من اليومي العابر إلى الأبديّ البسيط.

اسم “أقشور” لا يحمل كثيرا من التعقيد، لكنه في معناه الشعبي يختصر هوية المكان، إذ يُطلق محليا على الموقع الممتد على ضفاف وادي الفردة الذي ينبع من عين دانو، بجبل تيسوكا المرتفع عن سطح البحر بـ 2122 متر، ويشمل مناطق جبلية وغابوية وشلالات متعددة، تبعد حوالي 30 كيلومترا عن مدينة شفشاون الزرقاء.

ويقال إن التسمية مشتقة من عبارة أمازيغية تعني “الماء المتدفق” أو “المنبع”، وهي دلالة لا تُخطئها العين حين تصل، فالماء في أقشور ليس مجرد مكوِّن طبيعي، بل هو العنصر المؤسس للمكان، والمتحكم في إيقاع الحياة فيه، سواء عبر مجاري الوديان، أو الشلالات المعلقة، أو حتى السواقي الصغيرة التي ترافقك كصديق دائم في رحلتك.

تعكس أقشور مميزات “السياحة الهادئة” حيث الطبيعة الجبلية، والمياه العذبة المتجمعة في بحيرات تجذب آلاف السياح سنويا

أقشور التي كانت في ما مضى منطقة عبور للرعاة والصيادين، تحوّلت في العقود الأخيرة إلى وجهة بديلة للسياحة الهادئة والطبيعة الوعرة، خصوصا مع انتشار صور شلالاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن رغم ذلك، لا تزال تحتفظ لنفسها بمسافة من العزلة الهادئة، ومسافة أكبر من الصدق.

الوصول إلى أقشور مغامرة في حد ذاتها، تبدأ من مدينة شفشاون، عبر طريق جبلية متعرجة تمتد على مسافة تقارب 30 كيلومترا، في رحلة تستغرق ما بين 45 دقيقة وساعة، على حسب طبيعة وسيلة النقل.

يمكن للزائر أن يعتمد على سيارة خاصة أو حافلات النقل الصغيرة انطلاقا من مدينة شفشاون، أو سيارات الأجرة الكبيرة التي تكلف الراكب 25 درهما، والتي تنطلق من “باب العين”، وهي المحطة التي يبدأ منها أغلب السائحين والمغامرين رحلتهم في اتجاه “أقشور”، وإذا كنت من هواة المشي، فبإمكانك التوقف في بعض الدواوير المجاورة واستكمال المسار على الأقدام، لتجربة فريدة من نوعها، حيث تصبح كل خطوة انغماسا أعمق في الطبيعة.

أما إن كنت ترغب في الوصول الى أقشور انطلاقا من مدينة تطوان، فالرحلة تبدأ على بُعد 70 كيلومترًا، صوب هذا الفردوس الأخضر الذي يلوذ بين الجبال، وتستغرق حوالي ساعة ونصف تقريبا، بواسطة السيارة أو الطاكسي، لكن لا أحد يشعر بثقل الوقت حين تكون الرفقة أشجارا باسقة وهواء جبليّا.

ينطلق المسافرون عبر الطريق الوطنية رقم 2، في اتجاه الجنوب، عابرين بلدتي الزينات وبني حسان، حيث تنفتح الأبواب الأولى على سلاسل من التلال الوديعة، قبل أن تأخذ الطريق منحى أكثر متعة عبر الطريق الجهوية رقم 406، حيث يمر الزائر بمدشر مزلافن ومجموعة من الدواوير الصغيرة التي تستعرض بساطها الطبيعي الأخضر في صمت وبهاء، إلى أن تلوح في الأفق مداخل أقشور، حيث الماء والشلال والنضرة الدائمة.

تتمير أقشور بمناظرها الطبيعية، وأمان مرافقها، وقربها من مدن حضرية تسهل الوصول إليها.

أما إن اخترت أن تبدأ رحلتك من طنجة، فالمسافة أطول قليلا لكنها تستحق كل دقيقة، عبر حوالي 120 كيلومترا من الطريق، ومدة زمنية تقارب ساعتين ونصف، بواسطة سيارتك الخاصة أو الطاكسي، تمر عبر الطريق الوطنية رقم 2، المشهورة بمنعرجاتها التي تعانق الجبال، ثم تتفرع إلى الطريق الجهوية رقم 406، هناك، تصبح الطريق أشبه بممر سري بين الأشجار، تصعد بك تارة وتنزل بك أخرى، كأنك في رقصة صامتة مع الجغرافيا، لا يقطعها سوى همسات السواقي والمروج الممتدة على الجانبين.

وبالنسبة للراغبين في القدوم من مدن مغربية أخرى أو من خارج الوطن، فإن مطار سانية الرمل بتطوان هو الأقرب إلى أقشور، ويقع على مسافة زمنية لا تتجاوز ساعة و30 دقيقة من الموقع، في حين يُعد مطار ابن بطوطة بطنجة خيارا متاحا أيضا، خاصة للراغبين في الاستمتاع بجولة أطول، ومن هذين المطارين، يمكن استقلال سيارات الأجرة أو حجز وسائل نقل خاصة عبر التطبيقات الذكية، التي صارت بمثابة بوابات رقمية تربط المسافر بالحلم الجبلي وبينما تسلك الطريق من المطار، تكون الطبيعة هي المضيف الأول، تُصافحك بألوانها، وتُنشد لك أهازيجها الصامتة إلى أن تصل إلى أقشور.

قبل أن تصل  إلى شلالات أقشور، وقبل أن تلامس قدماك المسابح الصخرية والمياه العذبة، لا بد لك أن تختار مكانا للإقامة، حيث تتعدد الخيارات وتختلف التجارب، لكنها جميعا تشترك في شيء واحد، هو الغوص في حضن الجمال، والانسجام مع الطبيعة.

فعلى بعد كيلومترات قليلة من خرير مياه وجداول شلالات أقشور، تستقر فنادق الضيافة كبيوت تقليدية يفتح أبوابها على مشهد جبلي يسرّ العين، حيث تبلغ أسعار الإقامة فيها ما بين 300 و450 درهما، مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المواسم السياحية، وتشمل غرفًا بسيطة محاطة بأشجار الزيتون والصفصاف، مع فناءات حجرية تُقدَّم فيها كؤوس الشاي المنعنع تحت ظل السماء.

وتتميز هذه دور الضيافة المبنية بالأحجار المحلية مع تفاصيل العمارة الشفشاونية، حيث تُطل غرفها على ممرات مائية متفرعة، كأنها جزء من الحكاية الطبيعية التي تصنعها أقشور كل يوم، وتبقى ذكرى الإقامة فيه كأنها فصل إضافي من كتاب الرحلة.

تتمير الإقامات بمدينة أقشور بطابع البناء المحلي الذي يعتمد على الصخور المحلية والبساطة ليوفر للسائح تجربة فريدة في الإقامة بأسعار في المتناول

وإذا كنت تريد أن تجعل من مدينة شفشاون إقامة لك، فالأزقة الزرقاء تحتضن بدورها بيوتا تقدم أكثر من مجرد إقامة، بل حالة وجدانية يصعب تكرارها، في حي هادئ، كجوهرة أنيقة بزخارف أندلسية، وإفطار منزلي يُقدَّم في فناء مزهر، تبدأ أسعاره من 400 درهم، ويشبه في بساطته رفقة الشعراء والرحّالة، وهي الخيار الآكثر إبهارا وتكلفة، حيث الحدائق المصممة بعناية، والغرف التي تفتح على منظر بانورامي للجبل والمدينة، بأسعار تبدأ من 2200 درهم، لتكون الإقامة هناك كأنها دعوة صامتة للتأمل.

وفي قلب المدينة القديمة، هناك إقامات فندقية على بيتٌ يروي تفاصيل الحياة الشفشاونية الأصيلة من أبواب خشبية، وبلاط قديم، وسقف يوشوش القصص، والإقامة فيه تبدأ من 600 درهم، وترافقها خدمات استكشافية نحو أقشور أو غابات تاسلمطان، ويجمع بين الجو العائلي والموقع الاستراتيجي.

وللباحثين عن التجربة الرحّالية البسيطة، توفر  إقامات بأسعار تبدأ من 90 درهمًا في الليلة، في غرف مشتركة، مع فرصة نادرة للقاء مسافرين من ثقافات مختلفة، كما يمكنك استئجار منزل ريفي من السكان المحليين في دواوير مجاورة، بأسعار تتراوح بين 200 و400 درهم لليلة، حسب الموسم وعدد الأشخاص، وتوفر أغلب هذه البيوت فطورا جبليا من خبز الشعير، وزيت الزيتون، والجبن البلدي.

لكن التجربة الأكثر تفردا تبقى التخييم، إذ يقصد هواة المغامرات بعض الهضاب المرتفعة أو ضفاف النهر، وينصبون خيامهم، لتبدأ تجربة ليلية استثنائية، تحت السماء المرصعة بالنجوم، وصوت الماء الذي لا يتوقف، دون خوف من أي اعتداءات أو تجاوزات، فالمنطقة هناك آمنة وهادئة في انعكاس طبيعي للطابع المسالم لسكانتها المحلية.

عند مدخل الموقع الطبيعي، تصادفك مطاعم خشبية بسيطة، بعضها مبني على شاكلة أكواخ من قصب، تفوح منها رائحة الطهي على الفحم أو على الحطب، هذه المطاعم لا تعدو أن تكون امتدادا للطبيعة نفسها، تقدم ما يتوفر في السوق المحلي من سمك أو لحم أو دجاج، لكنّها تفعل ذلك بروح الجبل.

من الأكلات المغربية التي تعرض بمطاعم أقشور هناك الطاجين وعصير الليمون المنعش

من أشهر الأطباق التي تُقدَّم هناك، الطاجين بالدجاج البلدي والزيتون، أو لحم الغنم أو العجل، وأيضا قد تجد بعض أطباق الماعز الذي تشتهر قرى إقليم شفشاون بتربيته، كل ذلك يُطهى على نار هادئة في آنية طينية مفتوحة، تفوح منه رائحة التوابل والليمون المُصيّر، ويُقدم الطعام ساخنًا مع خبز تقليدي يُخبز في فرن طيني ما زال يحتفظ برماد النار ونكهة الذكريات، كما تجد طبق السردين المقلي والمشوي، طازجا يأتي من أسواق شفشاون أو واد لاو، ويقدم مع شرائح من الليمون وقليل من البهارات.

وإذا كنت من الذين يقصدون أقشور في ساعات الصباح أو برودة الشتاء، فربما يجدون في طبق البيصارة، المصنوع من الفول أو الجلبانة، زادًا دافئا، يملأ الجسد ويواسي الروح، حيث يُقدم هذا الطبق الشعبي ممزوجا بزيت الزيتون ورشة كمون، مع شاي الجبل المخلوط بالأعشاب البرية، فهناك، حتى الماء له مذاق مختلف، لأنه يأتي مباشرة من العيون القريبة، بارد ومنعش ويروي الظمأ.

أبرز ما يميز أقشور هي شلالاتها الجميلة، والتي تُعد محطة لا مفر منها لأي زائر، للوصول إليها، لا يكفي أن تقرأ عنها، بل عليك أن تمشي، وتصعد، وتتجاوز الصخور، وتعبر على جسور طبيعية خشبية نصبتها أيدي محلية بخبرة وتجربة، وقد يتطلب الأمر بين 45 دقيقة و3 ساعات من المشي على الأقدام في طريق محفوف بالمنحدرات الخضراء، بين أقرب نقطة وآخر شلال.

وعندما تسمع هدير الماء، يصبح كل التعب بلا فائدة، لأنك تدخل مساحة تستحق أن تُفتتح بمعجزة، الشلال محاط بغابات من بلوط وأرز مغربي ونباتات نادرة تنمو على جبال بارزة في قلب منتزه “تالَّسمطان” الوطني، المصنف ضمن القائمة المؤقتة لمواقع التراث العالمي لليونسكو منذ 12 أكتوبر 1998، ويشكل جزءا من المنتزه الطبيعي لتالسمطان المحمي ضمن الاحتياطي الحيوي العابر للقارات للبحر المتوسط  .

بجانب الشلال الكبير، يمكن أن تصادف منحنيات صغيرة وسواقي ماء باردة تشكل مسبحا طبيعيا بلون مغر للغوص و الاسترخاء، ومن المعالم الجانبية الجميلة، يوجد الجسر الطبيعي المعروف بـGod’s Bridge، وهي ترجمة حرفية للعبارة المحلية “القنطرة د ربي”، في إشارة إلى ممر جبلي شبيه جدا بالقمذرة، لكن لم تتدخل يد الإنسان لصناعتها، وهو موقع تراءى بعد نحو 45 دقيقة أولى من المشي، كأن الطبيعة صمّمته خصيصا لمن يطلب فسحة قصيرة تتسع لدهشة العين.

تبقي الجبال والهضاب والمسارات المائية من أهم مميزات السياحة في أقشور

وإذا ما قررت المضي قدما في مغامرتك، فستجد نفسه غارقا في جمال ساحرا، لا يكاد المرء يرى نظيرا له إلا في أفلام الرسوم المتحركة، حيث تنتشر عيون الماء البارد والبحيرات الصافية التي تُغري بالسباحة، وكلما تقدمت قليلا في رحلتك، إلا وشعرت أنه تتحرر تدريجيا من أصوات الآلات والبشر، لتعوضها ثرثرة الطيور وأصوات الرياح العابرة بين أوراق الشجر.

قد لا يكون الأمر سهلا على الجميع، فالرحلة تتطلب مجهودا وصبرا، إلا أنك كلما تقدمت في رحلته وسط الغابات عبر مسارات المياه، تشعر بأن هناك من يحثك على الاستمرار، وهو خيار لن تندم عليه، حين تصل إلى “سدرة المنتهى” في هذه المنطقة، حيث يتراءى الشلال الكبير، الذي تتدفق منه المياه بجبروت وسحر، لتكسر هدوء المكان، وتُخبرك بأن “أقشور” حقا فريدة من نوعها.

ما يميز أقشور أنها تُعاش ولا تُصوَّر فقط، هي المكان الذي يُعيدك إلى نفسك، ويُعلمك أن البساطة ليست فقرا، بل شكل من أشكال الغنى الحقيقي وأنت تغادر، لا تفكر كثيرا في صور السيلفي التي التقطتها، بل تتذكر لحظة جلست فيها على صخرة دون هدف، وراقبت الماء يمر كما تمر الحياة: صافية، عنيدة، ومستمرة.

هكذا هي أقشور، ليست وجهةً عابرة في خريطة السياحة، بل تجربة تتسلل إليك من تفاصيلها الصغيرة، وتترك فيك أثرا هادئا مثل ابتسامة طفل من دوار مجاور، أو كأس شاي دافئ في عز البرد الجبلي.



Source link

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة