يدخل المغرب لحظة حاسمة في تطور تنميته الترابية. ومع تسارع التحولات العالمية، من تسارع التحول الرقمي إلى تقلبات المناخ، تستعد البلاد لإعادة تشكيل عميقة لنموذج التنمية الترابية الخاص بها. لقد نضجت عملية اللامركزية وتشخيص إشكالياتها الحقيقية، وتطورت الجماعات الترابية لتصبح جهات فاعلة مؤسساتية حقيقية، وأنتجت التجارب الدولية مقاربات جديدة في كيفية تخطيط الدول وحكامتها وخلق القيمة. في ظل هذه التحديات، وتحت التوجيهات الملكية السامية الأخيرة أصبح من اللازم على السلطة التنفيذية بناء إطار عمل طموح للجيل القادم للتنمية الترابية بمقاربات تشاركية لكن بعيدة عن المشاركة السطحية الإخبارية، بل مشاركة فعالة انطلاقا من المقتضيات الدستورية المتعلقة بالديمقراطية التشاركية. وهذا الإطار يمكن أن يحول المغرب من نموذج يركز على توفير البنية التحتية إلى نموذج راسخ في المرونة والذكاء الرقمي والقدرة التنافسية الترابية والإدماج الاجتماعي. إن هذه المقاربة التحولية يمكن أن تشكل نقطة قد تعيد تعريف العلاقة بين الدولة والتراب والمواطنين. ومن السمات المميزة لهذا الإطار الناشئ تركيزه على التمايز الترابي، حيث أدرك صانعو السياسات العمومية بشكل متزايد أن المجالات الترابية المغربية لا تشترك في نفس الحقائق الميدانية أو الفرص. فالمناطق الساحلية تعرف ازدحامًا وضغوطًا بيئية؛ وتتعايش المناطق الجبلية مع قلة السكان والنظم البيئية الهشة؛ وتسعى المجالات الصحراوية إلى تعزيز اتصالها ودورها الجيوسياسي الاستراتيجي. من جهة أخرى، تواجه المدن الثانوية الصاعدة ضغوطًا مرتبطة بالتنقل، وتوظيف جيل الشباب وتطور العمران الغير متحكم فيه. وبالتالي، فبدلًا من تنميط برامج موحدة مفروضة من المركز على كافة التراب الوطني، يبتغي النموذج الجديد للتنمية الترابية بناء هويات ترابية مصممة خصيصًا، كل منها يعتمد على نقاط القوة المحلية، والأصول الثقافية، والإمكانات الاقتصادية. وسيُعزز هذا الذكاء الترابي من خلال اعتماد ما يسمى بالتوائم الترابية الرقمية – وهي نماذج افتراضية متطورة تدمج البيانات الجغرافية والاقتصادية والبيئية. وستمنح هذه الأدوات إذا تم بنائها بشكل صحيح صانعي القرار القدرة على محاكاة تغيرات استخدام الأراضي، وتوقع مخاطر المناخ، وتحسين البنية التحتية، وتسريع خيارات الاستثمار بدقة غير مسبوقة.
يبرز التحول الرقمي كعمود فقري للإصلاحات المقترحة. وتتمثل الرؤية الوطنية في أن يتطور المغرب إلى دولة موحدة مدعومة رقميًا، حيث تُعزز اللامركزية، ولا تُقوّض، من خلال الأدوات التكنولوجية. وسيساعد على ذلك مجهودات الحكومة عبر وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة المتعلقة بتوفير اتصال عالمي عالي السرعة، ونظام هوية رقمية موحد، وإدارة عمومية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، ومنصات بيانات مفتوحة ترابية لتحفيز الابتكار ثم مراكز ابتكار جهوية ستشكل حلقة بين صانعي القرار والباحثين العلميين والشركات الناشئة. وعبر بناء التراب الذكي، يمكن للجماعات الترابية استخدام الذكاء الاصطناعي لمراقبة شبكات المياه، واكتشاف العلامات المبكرة للتوسع الحضري من خلال صور الأقمار الصناعية، والتخطيط للتنقل بكفاءة أكبر. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الرقمنة لم تعد أداة ثانوية، بل هي البنية التحتية الأساسية الجديدة للحكامة الحديثة، وشرط أساسي لتحقيق عدالة ترابية كافية.
تُعد الصمود المناخي ركيزة أساسية أخرى لابد من أخدها بعين الاعتبار في النموذج التنموي الجديد. فالمغرب يواجه بالفعل ضغوطًا بيئية عميقة وهيكلية عبر موجات جفاف متكررة، وندرة المياه، وتآكل السواحل، وموجات حر، وتزايد مخاطر حرائق الغابات. وبالتالي لابد أن يتضمن الإطار الجديد الصمود ليس كمكون اختياري، بل كأساس هيكلي للتخطيط الترابي. فعلى كل مجال ترابي منسجم أن يضع استراتيجية صمود مرتبطة بمؤشرات واضحة، بما في ذلك تدابير مثل معايير البناء المقاومة للمناخ، والتعمير الأخضر، ومجموعات الطاقة المتجددة، واستعادة النظم البيئية الطبيعية. ويمكن أن يحول هذا النهج جهات مثل سوس ماسة، ودرعة تافيلالت، وكلميم واد نون والجهات الجنوبية الصحراوية إلى مختبرات للتنمية الذكية مناخيًا التي تجمع بين إنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وممارسات الاقتصاد الدائري، والزراعة الموفرة للمياه.
لتحقيق هذه الطموحات، لابد أن يشكل النموذج الجديد ابتكارًا جريئًا: إطار حكامة ترابية تعاونية، رشيقة وصامدة، وذلك في منظومة تحديث الإدارة العمومية بشكل شامل. وسيسمح هذا الإطار للجماعات الترابية، بمختلف مستوياتها، بالعمل بشكل أكثر استجابة من خلال دورات ميزانية تشاركية سريعة، وصناديق اختبار تنظيمية تجريبية، ولوحات معلومات مراقبة آنية للاستثمارات العمومية. كما يتوخى الإطار الجديد إنشاء هياكل بيانات ترابية لضمان توجيه المبادئ الأخلاقية والآمنة والشفافة لتوسيع الخدمات الرقمية. وسيكون الهدف الأوسع هو كسر الجمود البيروقراطي، وتعزيز المساءلة، وغرس ثقافة التجريب داخل المؤسسات العمومية.
تكمن تنمية الكفاءات البشرية في صميم القدرة التنافسية الترابية. وهكذا فهذا النموذج الجديد يتطلب أيضا إحداث آليات ترابية للبناء المهارات الرقمية والخضراء، تربط الجامعات ومؤسسات التكوين المهني والشركات الخاصة كما هو الحال عبر برنامج JOBINTECH الذي تموله وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة ومعاهد الجزري للابتكار وبرامج أخرى. وستركز هذه الآليات على القدرات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، والزراعة الدقيقة، وتقنيات الطاقة المتجددة، وهندسة البيانات. ويمكن للمنصات الرقمية التي تمكن من اعتماد الشهادات الدقيقة أن تساعد الشباب في المناطق القروية والنائية من الوصول إلى المهارات الناشئة. وقد تلعب البرامج الموجهة للنساء والتعاونيات، المدعومة بأنظمة الدفع الرقمية والأسواق الافتراضية والتدريب الهجين، دورًا رئيسيًا في تضييق فجوة التفاوت بين الجنسين والتفاوت الترابي.
من جهة أخرى، يسعى الجانب الاقتصادي لإصلاح النموذج التنموي إلى تحويل المجالات الترابية إلى محركات للابتكار. وتُصوَّر مناطق الابتكار الترابية كمساحات تتعايش فيها مختبرات الأبحاث وحاضنات الأعمال والمجمعات الصناعية ومنصات الخدمات اللوجستية، مما يُنشئ تجمعات ترابية تجذب الاستثمار وتُولِّد وظائف عالية المهارات. ويمكن لأنظمة الزراعة المبتكرة أن تُعزز الإنتاجية في الاقتصادات القروية، بينما تُوسِّع الأسواق الرقمية نطاق ولوج الشركات المحلية إلى الأسواق العالمية. وستُركِّز مثلا المراكز الجهوية للاستثمار المُعزَّزة على القطاعات ذات الإمكانات الترابية القوية، بما في ذلك الصناعات الزراعية والغذائية والتعدين والسياحة والصيد البحري والخدمات الرقمية والصناعات الخضراء الناشئة مثل الهيدروجين.
لا تزال العدالة الترابية بالمغرب مصدر قلق بالغ. ولمعالجة التفاوتات بين المراكز الحضرية والمناطق القروية، وهنا لابد من استخدام استخدام مؤشر العدالة الترابية الذي سيوجه الاستثمارات العمومية بناءً على مؤشرات اجتماعية واقتصادية واضحة. إلى جانب الرعاية الصحية الرقمية، والتعليم عن بُعد، وأنظمة التنقل عند الطلب، يهدف هذا النهد في توجيه الاستثمار العمومي إلى الحد من التفاوتات الهيكلية في الوصول إلى الخدمات. وستستفيد الجماعات الترابية الجبلية، والقرى غير الساحلية، والمناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة بشكل كبير من الاستثمار المُوجّه القائم على البيانات.
يتطلب تمويل هذا التحول الهيكلي في التنمية الترابية الطموح آليات تمويل جديدة. ويمكن في هذا الإطار ابتكار سندات التحول الأخضر والرقمي، وأدوات الاستثمار المؤثر، وتوسيع نطاق الشراكات بين القطاعين العام والخاص، لا سيما في مجالات البنية التحتية، والطاقة، وإدارة المياه. ومن أبرز الابتكارات طرح تعاقد ترابي قائم على الأداء، حيث يعتمد جزء من التمويل الترابي على نتائج قابلة للقياس في تقديم الخدمات العمومية، واعتماد التقنيات الرقمية، والقدرة على التكيف مع تغير المناخ، والإدماج. ومن المفترض أيضا أن يزيد هذا النظام من المساءلة، ويعزز الالتقائية والتنسيق، ويحسّن كفاءة الإنفاق العمومي.
وختاما، إذا تم تفعيل هذا الإطار المقترح مع التعديلات اللازمة حسب الحالات، فسيمثل أكثر من مجرد تحديث تقني؛ بل سيُشير إلى ظهور تعاقد اجتماعي ترابي جديد في المغرب. ففي عصرٍ يسوده عدم اليقين المناخي، والتسارع التكنولوجي، والديناميات العالمية المتغيرة، ستُرسّخ المملكة المغربية موقعها كمحرك مبتكر ومرن وشامل للتقدم الوطني. وتتمثل الرؤية التي تتشكل في رؤية مغربية حيث يصبح كل مجال ترابي، ساحلي أو داخلي، قروي أو حضري، مساحة ديناميكية قادرة على دفع الابتكار، وتعزيز التماسك الاجتماعي، والمساهمة في مسار وطني أكثر توازناً واستدامة.
الهزيتي محمد أنوار. خبير في التنمية الترابية وعضو المعهد الدولي للعلوم الإدارية



