كشفت بيانات النشرة الفصلية للتجارة الخارجية لموريتانيا، الصادرة عن الوكالة الوطنية للإحصاء والتحليل الديمغرافي والاقتصادي، عن تحوّل نوعي في خريطة شركاء نواكشوط داخل القارة الإفريقية، بعدما استحوذ المغرب على أكثر من 35 في المائة من واردات موريتانيا من بلدان القارة، متقدما بفارق واضح على الجزائر (16,2 في المائة) ومصر (14,9 في المائة).
ورغم هذا الديناميك الإقليمي المتصاعد، تشير البيانات إلى أن التبادلات التجارية لموريتانيا مع بقية دول العالم ارتفعت بنسبة 5,6 في المائة خلال الربع الثالث، مدفوعة بزيادة صادراتها بنسبة 7,7 في المائة، ووارداتها بنسبة 3,94 في المائة. غير أن هذا النمو لم يُترجم إلى تحسّن في الميزان التجاري، الذي سجّل عجزا تجاوز 5418 مليون أوقية، ما يعكس هشاشة القاعدة الإنتاجية وتبعية موريتانيا لأسواق خارجية لتغطية جزء كبير من احتياجاتها الأساسية.
وفي قلب هذه الاختلالات يبرز استمرار الدول الأوروبية بوصفها المورد الرئيسي لموريتانيا، بأكثر من 36 في المائة من الواردات خلال هذا الربع، كما تظل الزبون الأول للصادرات الموريتانية بحصة 37,4 في المائة، مقابل 16,6 في المائة للقارة الإفريقية. أما داخل المنظومة الأوروبية نفسها، فتتقدم إسبانيا بما يفوق 33 في المائة من حجم التبادل، تليها سويسرا (18,9 في المائة)، ثم بلجيكا (14,7 في المائة)، وهي أرقام تسلط الضوء على طبيعة الارتباط التاريخي لاقتصاد موريتانيا بالدورة التجارية الأوروبية، خصوصا في قطاعي الصيد والمعادن.
الصين في الصدارة آسيويا والمغرب أفريقيا.. الجزائر تتقهقر
موازاة مع الارتباط الأوروبي التقليدي، تكشف الأرقام دينامية متنامية باتجاه آسيا، التي احتلت المركز الثاني بحصة 26 في المائة من التبادل التجاري.
وفي مقدمة هذا الصعود تقف الصين واليابان اللتان تستحوذان مجتمعتين على أكثر من 70 في المائة من المبادلات التجارية الآسيوية-الموريتانية. وينسجم هذا التحول مع سياسة الانفتاح الآسيوي على الثروات الطبيعية لموريتانيا والبحث عن منافذ جديدة في الساحل.
وتبرز النشرة أن حجم التبادل التجاري مع دول الاتحاد المغاربي يمثل 9,1 في المائة من إجمالي التبادل التجاري خلال الربع الثالث، وهي نسبة تكشف محدودية الاندماج المغاربي رغم دينامية الرباط ونواكشوط في السنوات الأخيرة. ضمن هذا الإطار، يتصدر المغرب الشركاء المغاربيين بفارق كبير، في حين يظل الحضور الجزائري محدودا رغم القرب الجغرافي وطموحات الجزائر في تعزيز موطئ قدم اقتصادي في موريتانيا.
وفي سياق العلاقات الإفريقية جنوب-جنوب، تكشف البيانات أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) تمثل 20,9 في المائة من التبادل الإفريقي لموريتانيا، ما يعكس استمرار الروابط الكلاسيكية لاقتصاد موريتانيا بالأسواق القريبة جنوبا، خصوصا السنغال ومالي.
أما في الشرق الأوسط، فتقف الإمارات العربية المتحدة وحيدة تقريبا بوصفها الشريك التجاري شبه الأوحد، إذ تستحوذ على أكثر من 98 في المائة من التبادل التجاري لموريتانيا مع المنطقة، ما يرسّخ حضور أبوظبي في قطاعات اللوجستيك والطاقة والمعادن.
خبير اقتصادي موريتاني: “المغرب لم يعد مجرد مزود… بل فاعل اقتصادي استراتيجي في إعادة تشكيل السوق الموريتانية”
ولفهم خلفية هذا التحول، يقول الخبير الاقتصادي الموريتاني د.الحسين ولد السالك، في تصريح لـ”الصحيفة” إن تصدر المغرب لقائمة مورّدي موريتانيا داخل إفريقيا بنسبة تفوق 35 في المائة هو نتيجة مسار استراتيجي طويل.
وأوضح المتحدث، أن المغرب يشتغل بمنطق ربط السوق الموريتانية بالمنظومة الاقتصادية المغربية عبر البنيات اللوجستيكية والمواد الأساسية والخدمات.
والمثير وفق الخبير الموريتاني ذاته، أن هذه الدينامية تأتي “رغم المنافسة الجزائرية والمصرية، ما يعكس قدرة الاقتصاد المغربي على التغلغل في أسواق غرب إفريقيا عبر النموذج الصناعي والغذائي ومواد البناء”.
ويضيف الخبير: “هذه الأرقام تعكس أيضا هشاشة السوق الموريتانية التي لا تزال تعتمد بشدة على الواردات، في ظل عجز تجاري يتجاوز 5418 مليون أوقية” وفق المتحدث مستدركا: “لكن المقلق أكثر هو أن موريتانيا تحتاج اليوم إلى إعادة بناء سياساتها الإنتاجية، حتى لا تصبح هذه التبعية البنيوية عبئا على نموذجها التنموي”.
ما تكشفه اللوحة الرقمية على وفرتها ويوضحه الخبير الاقتصادي في حديثه لـ “الصحيفة” هو أن موريتانيا تتحرك في فضاء اقتصادي تحكمه ثلاثة محاور هي محور أوروبي كلاسيكي يحتفظ بالريادة رغم تراجع حضوره النسبي، ومحور آسيوي صاعد تقوده الصين بثقل استثماري واضح، ثم محور مغاربي-إفريقي يتقدم فيه المغرب منفردا بفارق اقتصادي وسياسي ملحوظ.
وبين هذه المحاور، يبقى السؤال المطروح على صناع القرار في نواكشوط هو كيف يمكن تحويل التبادل التجاري من مجرد أرقام إلى رافعة سيادية تحمي الاقتصاد الموريتاني من اختلالات العجز ومن تقلبات الأسواق الدولية؟
معبر الكركارات.. شريان بلاد شنقيط التجاري
صعود المغرب كشريك أول داخل القارة يعكس نهاية مرحلة كانت فيها موريتانيا تستهلك منتجات إفريقيا دون أن ترتبط بمنظومة إقليمية فعّالة، واليوم، يبدو أن الرباط أصبحت لاعبا مركزيا في إعادة رسم العلاقة الاقتصادية بين ضفتي المحيط الأطلسي والساحل، في وقت تواصل فيه آسيا وأوروبا إعادة التموضع في هذا الفضاء الحساس جيوسياسيا.
ويبدو لافتا أن هذا التقدم المغربي جاء على حساب الجزائر التي لا تتجاوز حصتها 16,2 في المائة، رغم محاولاتها الاستثمار في البنيات الطرقية العابرة للحدود والمبادلات الطاقية، وهذا الفارق يعكس أن الرباط استطاعت أن تترجم تقاربها السياسي مع نواكشوط إلى صعود تجاري حقيقي، بينما بقي المشروع الجزائري محدودا بسبب غياب آليات لوجستيكية فعّالة، وتعقيدات العبور الحدودي، وضعف القطاع الخاص الجزائري في التصدير القاري.
وإذا كانت الأرقام تعكس صعودا في الحضور المغربي، فإن جزءا مهما من هذا النمو يُعزى إلى الطفرة المسجلة في حركة النقل البري عبر معبر الكركرات، الذي أصبح شريانا اقتصاديا لمرور آلاف الشاحنات المحملة بالمنتجات الغذائية ومواد البناء نحو السوق الموريتانية وبلدان غرب إفريقيا، وهذا المعطى اللوجستيكي يمنح المغرب ميزة تنافسية يصعب على منافسيه الإقليميين مجاراتها، ويعيد رسم هندسة التبادلات في المنطقة الأطلسية–الساحلية.
وتُعد واقعة تحرير معبر الكركرات في نونبر 2020 لحظة عززت موقع المغرب كممر تجاري مؤمّن ومفتوح نحو موريتانيا وبلدان الساحل. فاستئناف حركة العبور بعد العملية التي قامت بها القوات المسلحة الملكية أعاد الثقة إلى آلاف الشركات المغربية والموريتانية التي تعتمد على هذا الشريان الاستراتيجي، ومنذ تلك اللحظة، باتت المغرب شريكا لا غنى عنه في تزويد السوق الموريتانية، ليس فقط بحكم القرب الجغرافي، بل بفعل استقرار خطوط الإمداد.
ويُجمع خبراء العلاقات المغاربية على أن التقارب الاقتصادي بين البلدين يتغذى من تماهي المصالح السياسية، خصوصا في ملفات مكافحة الإرهاب، وتدبير الحدود، واستقرار الساحل، إضافة إلى تزايد قناعة موريتانيا بجدوى الحفاظ على علاقة متوازنة مع الرباط في ظل التوترات الإقليمية بين المغرب والجزائر ويُفسَّر جزء من التفاوت في الحصص التجارية بين البلدين المغاربيين في موريتانيا بفضل هذه الدينامية السياسية الهادئة.
كما اكتسب الحضور الاقتصادي للمغرب في موريتانيا طابعا “هادئا وفعّالا”، بعيدا عن الحملات الإعلامية والوعود الضخمة فالبنوك المغربية، ومجموعات البناء، وشركات التأمين، والموزعون الكبار، صاروا جزءا من النسيج الاقتصادي الموريتاني، بينما تمكنت المقاولات الصغيرة والمتوسطة المغربية من التغلغل في سوق المواد الاستهلاكية، ومواد البناء، والخدمات المهنية، وهو ما يعزز الأرقام التي كشفها التقرير الأخير.
ويأتي هذا الصعود في إطار رؤية مغربية أوسع تُعرف بـ”الاستراتيجية الأطلسية”، التي ترتكز على تحويل الواجهة الأطلسية للمغرب إلى منصة ربط اقتصادي مع إفريقيا جنوب الصحراء وبما أن موريتانيا أول دولة جنوبية في هذا الحزام، فإن تعزيز الرباط لوجودها فيها يُعد شرطا لازما لإنجاح هذا المشروع، الذي بات اليوم جزءا من التصور المغربي للإقلاع الاقتصادي الإفريقي المشترك.
في المقابل، تجد نواكشوط مصلحة عملية في هذا التوازن فالعلاقة مع المغرب تمنحها منفذا تجاريا مستقرا، وعلاقات مع أوروبا والغرب عبر شبكة اتفاقات الرباط، بينما تمنحها العلاقة مع الجزائر عمقا استراتيجيا في دول الساحل. هذا التوازن الدقيق يسمح لموريتانيا بالمناورة بين القوى الإقليمية، والاستفادة من المنافسة الاقتصادية لصالحها، دون أن تنخرط في أي محور سياسي ضيق.



