يواصل المغرب ترسيخ مكانته كواحد من “أكثر الوجهات الاستثمارية جذبا في القارة الإفريقية”، وفق ما أكدته مجلة “أوليس” الفرنسية المتخصصة حيث اعتبرت أن المملكة باتت تستقطب كبار المستثمرين ورجال الأعمال من مختلف أنحاء العالم، بفضل مقومات متعددة تجمع بين “الإصلاحات الجريئة، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، والانخراط الحاسم في دينامية تحديثية مستدامة”.
المجلة الفرنسية ذائعة الصيت التي تُعنى بثقافة السفر والاستكشاف، استعرضت في عددها الصادر في يوليوز 2025، مجموعة من المؤشرات التي جعلت من المغرب بيئة مواتية للأعمال والاستثمار، مبرزة أن المملكة بذلت جهودا كبيرة خلال السنوات الأخيرة لتحسين مناخ الأعمال، واعتمدت إصلاحات اقتصادية واجتماعية عميقة هدفها تبسيط المساطر الإدارية وتشجيع الاستثمار الخاص، ما ساهم في ارتفاع تدفقات رؤوس الأموال بشكل مطرد، وأدى إلى تحول المغرب إلى مركز اقتصادي يتعاظم دوره إقليميًا وقاريًا.
وترى “أوليس” أن هذه الدينامية لا تنفصل عن السياسات العمومية التي راهنت على تقوية البنيات التحتية وتحديث المنظومات الضريبية، حيث أضحى المغرب يقدم عرضا متكاملا يستجيب لتطلعات المستثمرين من حيث الشفافية والربح والتوسع، ويعزز موقعه كبوابة تجارية نحو إفريقيا، فالدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمملكة، تهيمن على المشهد الاستثماري الوطني، باعتبارها القلب المالي والإداري، إلى جانب مراكش التي تزاوج بين الجاذبية السياحية والفرص الاستثمارية في العقار والفندقة والخدمات الرفيعة.
وما يضاعف من جاذبية المغرب، حسب ذات التقرير، هو موقعه الاستراتيجي عند ملتقى ثلاث قارات، بين أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط، ما يجعله معبرا طبيعيا للأسواق الصاعدة في القارة الإفريقية، وفي الآن نفسه منفذا استراتيجيا نحو السوق الأوروبية، مع ما توفره شبكة الموانئ والطرقات والسكك الحديدية من قابلية لوجستيكية هائلة، خصوصا مع الطفرة التي حققها ميناء طنجة المتوسط الذي بات يُصنف من بين أهم موانئ الشحن في العالم.
وتعزز هذه القراءة المعطيات الرقمية المتداولة في التقارير الاقتصادية، إذ تشير الأرقام الرسمية إلى أن المبادلات التجارية بين المغرب وإسبانيا وحدها بلغت سنة 2024 حوالي 22,7 مليار أورو، وهو رقم غير مسبوق يعكس نمو الشراكة الاقتصادية بين الضفتين، كما أن الاستثمارات الصينية في المغرب، وخصوصا في قطاعات السيارات والطاقة المتجددة، تخطت 9,3 مليار أورو، ما يُظهر ثقة متزايدة في السوق المغربية باعتبارها منصة صناعية ذات جدوى اقتصادية واستراتيجية.
وتسجل الصناعة الوطنية بدورها نموًا ملحوظا في عدد من القطاعات، وعلى رأسها النسيج والجلود، حيث بلغت صادرات القطاع نحو 43,1 مليار درهم خلال سنة 2024، مدعومة باستثمارات خارجية خلقت الآلاف من مناصب الشغل، بينها مشروع صيني ضخم خصص له غلاف مالي يفوق 2.3 مليار درهم، وساهم في توظيف ما يزيد عن 7 آلاف عامل بشكل مباشر، بالإضافة إلى فرص غير مباشرة في سلاسل التوريد والتوزيع.
ولا تقتصر الدينامية الاستثمارية على المجالات التقليدية، بل تمتد إلى الفضاء الرقمي والاقتصاد الجديد، حيث تحول المغرب في السنوات الأخيرة إلى وجهة مفضلة للشركات التكنولوجية الناشئة، بفضل احتضانه لتظاهرات كبرى من قبيل معرض GITEX Africa، الذي نُظم في مراكش على مدى ثلاث دورات متتالية، واستقطب ممثلين عن أكثر من 35 دولة، ومؤسسات مالية واستثمارية بأصول تتجاوز 250 مليار دولار، ما جعله أكبر منصة إفريقية لعرض الابتكارات في مجالات الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المالية، والتجارة الرقمية، والأمن السيبراني.
ووفق التقرير فإن نجاح النموذج المغربي في استقطاب الاستثمارات الكبرى لا ينفصل عن التوجيهات الاستراتيجية للقيادة العليا في البلاد، التي جعلت من تحسين مناخ الأعمال وتبسيط الإجراءات وتشجيع المقاولة الوطنية والأجنبية أولويات وطنية واضحة، تُترجم إلى سياسات قطاعية دقيقة، واستراتيجيات عمومية مندمجة، تسعى إلى جعل المغرب ليس فقط ورشا مفتوحا للاستثمار، بل أرضا لتوطين الإنتاج وتطوير القيمة المضافة.
وتعكس هذه الرؤية، في العمق، انتقال المغرب من مجرد موقع جغرافي في الخارطة الإفريقية إلى فاعل اقتصادي إقليمي يسعى إلى التحول إلى مركز صناعي ولوجستي ومينائي متعدد الأبعاد، يكون فيه القطاع الخاص رافعة مركزية، والاستثمار الأجنبي المباشر إحدى دعائم النموذج التنموي الجديد، الذي يستند على التنوع والانفتاح والتنافسية.
وهكذا، لم يعد المغرب، حسب المصدر نفسه، مجرد بلد يستقبل الاستثمارات في قطاعات استهلاكية محدودة، بل صار مركزا قاريا في قطاعات الصناعات التحويلية والطاقة النظيفة والتكنولوجيا الدقيقة. ورغم التحديات المرتبطة بالتقلبات العالمية، استطاع أن يرسخ صورته كبلد مستقر ومفتوح، يستثمر في بنياته التحتية، ويصوغ بيئة ضريبية وتشريعية محفزة، ويُقيم شراكات دولية متعددة، تؤهله ليكون بوابة إفريقيا وملتقى الفرص العابرة للقارات.
وتخلص مجلة “أوليس” في تحليلها إلى أن الموقع الجغرافي المتميز، المقترن بسياسات اقتصادية مواتية، يواصل ترسيخ موقع المغرب ضمن الوجهات الأكثر استقطابا للاستثمار الدولي، مؤكدة أن هذا الاتجاه التصاعدي ليس مؤقتا، بل نتيجة تخطيط طويل المدى جعل من البلاد خيارا استراتيجيا لا غنى عنه بالنسبة لكبار الفاعلين في الاقتصاد العالمي.



