نزار بركة، محمد المهدي بنسعيد، مصطفى بايتاس، عبد الجبار الراشدي… كلهم أعضاء في الحكومة المغربية استضافتهم القنوات العمومية في ظرف أسبوع واحد، لا من أجل الجلوس لعرض حصيلة قطاعاتهم، أو الدفاع عن اختياراتهم وتوجهاتهم خلال ما مر من ولايتهم الانتدابية، بل من أجل الجلوس أمام أطراف أخرى، شابة غالبا، تُوجه لهم الملاحظات والانتقادات، بل والتقريع أحيانا.
هو مشهد غير مألوف عبر القنوات التلفزيوينة المغربية، التي ظلت لسنوات طويلة متَّهمة بالخروج التام عن أدوارها المهنية والأخلاقية، والتحول إلى مجرد “بوق” للخطاب الرسمي الجاف، مع هامش محدود جدا لمناقشة أي إجراء حكومي حتى لو كان أنه يعاكس رأي الشارع المغربي، ولوهلة، صار المغاربة يتساءلون عما إذا كان الأمر بدايةً لبناء منظومة إعلامية عمومية تُعَبِّر عنهم بالفعل، أم مجرد فلتة من فلتات الزمن، اقتضتها ضرورة التخفيف من غضب “جيل زِد” كما حدث ذات مرة مع احتجاجات 2011.
اكتشافُ شيء اسمه التواصل
خلال 4 سنوات مرت من عُمر حكومة عزيز أخنوش، بنسختها الأولى، ونسختها الثانية التي لم تختلف عن سابقتها إلا في تغيير أسماء عدد محدود من الوزراء وتسمية 6 كتاب دولة كلهم مُنتمون إلى أحزاب الأغلبية الثلاثة، كان “التواصل” حلقة مفقودة في عمل هذه التجربة، حتى في أكثر المحطات ضغطا وحساسية، مثل احتجاجات آيت بوكماز ومستشفى الحسن الثاني في أكادير، وحتى في احتجاجات الأطر التربوية وطلبة كليات الطب والصيدلة واحتجاجات امتحان المحاماة.
الثابت، هو أن الوزراء كانوا يرفضون القدوم إلى “بلاطوهات” القناة الأولى والقناة الثانية وقناة “ميدي 1 تي في”، وهي القنوات التي يعود كل رأسمالها أو جلُّه، إلى مؤسسات عمومية، بشكل جعلها تبدو وكأنها عاجزة عن تقديم دورها المهني الطبيعي، وهو ما يُفسر الطريقة التي تحدثت بها الإعلامية في 2M سناء رحيمي، مع عبد الجبار الرشيدي، كاتب الدولة المكلف بالإماج الاجتماعي، على الهواء مباشرة، حين كشفت أن الوزراء الذين جرى الاتصال بهم “إما هواتفهم مغلقة، أو أن مدراء التواصل العاملين معهم يعتذرون”.
الوزراء لا يمكن أن “يتواصلوا مع الإعلام “في التدشينات فقط، ويغيبوا في الأزمات”، بهذا المعنى تحدثت رحيمي مع الرشيدي، وعبره مع كل أعضاء الحكومة، في مشهد أَخرَجَ، بشكل نادر، التلفزيون العمومي من خانة “المُتواطئ” مع سياسة اللاتواصل التي تعتمدها الحكومة الحالية، إلى خانة “الضحية” الذي يعاني من هذا الوضع، شأنه شأن العديد من وسائل الإعلام الخاصة، المكتوبة والمسموعة والمرئية والإلكترونية، التي اشتكت كثيرا من انتهاك المبدأ الدستوري الذي يضمن الحق في الحصول على المعلومات.
وزراء مباشرةً على الهواء
الملاحظ، من خلال البرامج التلفزيونية التي عرضت عبر قنوات الإعلام العمومي، أن أعضاء الحكومة أصبحوا، ولأول مرة “مجبرين” على مواجهة الرأي الآخر بشكل صريح ومباشر ودون “مجاملة”، وهو دور لعبه صحافيون مثل سناء رحيمي وجامع كلحسن ونوفل العواملة وعبد المولى بوخريص… لكن الأهم من ذلك هو أن المجال كان مفتوحا للآراء الناقدة، وحتى الساخطة على أداء الحكومة الحالية، والأمر هنا لا يقتصر على ممثلي أحزاب المعارضة، وإنما أيضا شباب يمثلون “جيل زِد” أو حتى جيل الألفية الذي سبقه، والذي كان العمود الفقري لحراك سنة 2011.
نزار بركة، وزير التجهيز والماء مثلا، والذي رغم محاولته منذ البداية “مراوغة” أدواره الحكومية عبر ارتداء جُبة الأمين العام لحزب الاستقلال، إلا أن استضافته في القناة الثانية أمام مجموعة من الشباب الذين قُدموا على أنهم يُمثلون “جيل زِد”، جعلته يقف في مرمى نيران الانتقادات باعتباره بديهيا يمثل الأغلبية كلها، ليتم تذكيره بالضعف التواصلي للتجربة الحكومية الحالية، وسوء تدبيرها لقطاعات الصحة والتعليم والتشغيل، وتجاهلها لاحتجاجات سابقة، بل وأيضا تصرفات زملائه وتصريحاتهم التي اعتُبرت مستفزة، على غرار تصريح وزير العدل عبد اللطيف وهبي حين تحدث عن ابنه الذي درس في كندا، في عز أزمة امتحان الولوج لمهنة المحاماة، نهاية 2022.
هذا المسار “الجديد” الذي ينتهجه الإعلام العمومي، والذي يسمح بعرض الأمور كما هي، وإيصال الأصوات المخالفة للتوجه الرسمي للحكومة دون إقصاء، وعبر مساحات زمنية معقولة، كان مُفتقدا طيلة 4 سنوات من عمل الحكومة الحالية، وللمفارقة، فإن الدليل على ذلك هي آخر محطة تواصلية لرئيس الحكومة عزيز أخنوش، عبر القناتين الأولى والثانية، حيث بدا عاجزا عن تقديم أي فكرة تقريبا بصيغة سليمة، وفي المقابل فإن مُحاورَيه ظهرا وكأنهما يحاولان “مُساعدته” على الوصول إلى إجابات مقنعة، عوض مناقشة العديد من القضايا التي صارت، بعدها بأيام، مُحركاً لاحتجاجات غير معهودة منذ 14 عاما.
قناعة مهنية أم دوافع خفية؟
المؤكد، أن البرامج التي يُثت عبر القنوات المغربية خلال الأسبوع الماضي، والتي يشي التفاعل معها عبر منصات التواصل الاجتماعي أنها حققت نسب مشاهدة عالية، ولقيت اهتماما واسعا من مختلف شرائح المواطنين المغاربة، مثلت “مصالحة” بين “الإعلام العمومي” و”النقاش العمومي” المرتبط بما يدور حقا في الشارع، والذي ظل غائبا عنها لسنوات، وحتى إذا ما حضر فإنه يحضر باحتشام، ووفق منظور واحد هو المنظور الرسمي.
إلا أنه من الطبيعي أن تتسلل إلى أذهان لدى العديد من المتتبعين علامات استفهام كبيرة، في مقدمتها “السر” وراء هذا التحول “الراديكالي” في اهتمامات القنوات التلفزيونية، خصوصا وأن ذلك تزامن مع “توجه عام” للمؤسسات الرسمية من أجل “التواصل”، كل من موقعه، لدرجة أن وزارة الداخلية أخرجت الناطق الرسمي باسمها من مكتبه، لينتقل إلى منصة ملموسة يواجه من خلالها كاميرات وسائل الإعلام وأسئلة الصحافيين بخصوص ما جرى، حتى وإن اقتصر الأمر على المنابر العمومية حصرا.
هذا المسار، الجديد على المغاربة، دفع الكثيرين إلى البوح باعتقادهم أن الأمر يتعلق بتعليمات “أتت من فوق”، في إشارة ضمنية إلى مؤسسة القصر الملكي، على الرغم من عدم وجود أي معطى ملموس يثبت ذلك، في حين اعتبر آخرون أن وضع أعضاء الحكومة في “مواجهة تواصلية” مع المنابر العمومية التي كانت إلى وقت قريب تكتفي بالرواية الرسمية الصادرة عن مختلف الوزارات، ما هي إلا تمهيد لـ”زلزال سياسي” أكبر قد يكون مرتبطا بما سيعلنه الملك محمد السادس خلال ظهوره أمام البرلمان بغرفتيه يوم 10 أكتوبر 2025.
?Déjà vu
معرفة المحرك الرئيس لهذا التحول في وظائف الإعلام العمومية المغربي، تبدو ضرورية لفهم مآلات الوضع الراهن، فمن يتابع البرامج والحوارات والتقارير التي يجري بثها الآن، خصوصا إذا كان من زمن سابق لـ”جيل زِد”، يتذكر أن وضعا مشابها حدث قبل 14 عاما، حيث وجد المغاربة أنفسهم فجأة أمام نقاش مفتوح عبر القنوات التلفزيونية، إثر حراك 20 فبراير ثم الخطاب الملكي لـ9 مارس 2011، لدرجة أن التيارات السياسية الداعية لمقاطعة الاستفتاء على الدستور والانتخابات السابقة لأوانها، أيضا كانت حاضرة في المشهد.
بل أكثر من ذلك، فالبرامج الحوارية التي كانت تُذاع حينها، فتحت ملفات شائكة بخصوص الوضع الحقوقي والاختيارات السياسية وحتى طبيعة النظام، لدرجة أن برنامج “مباشرة معكم” على القناة الثانية مثلا، استضاف بتاريخ 16 مارس 2011، أسماء معارضة مثل عبد الحميد أمين الذي كان حينها نائبة لرئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والذي قال حينها بالحرف “نشكر حركة 20 فبراير التي مكنتنا من طرح هذا النقاش، الذي لم نكن نحلم أن يطرح على 2M”، قبل أن يضيف “الدستور، القمع، الاستبداد، المخزن، اليوم سنناقش هذه المواضع كلها”، والواقع هو أن هذه النوعية من النقاشات والضيوف “انقرضت” تماما بعد ذلك.
التخوف من أن يكون “الخط التحريري” الحالي، مجرد قوس فُتح لتهدئة غليان الشارع، وسيُغلق في أقرب فرصة بمُجرد الوصول إلى هذه الغاية، وبالتالي عودة الهوة الاعتيادية بين الإعلام العمومي والقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية المُلحة، لا يجد مُبرره في السيناريو الذي حدث قبل نحو عقد ونصف فقط، بل أيضا في تصرفات بعض أعضاء الحكومة أنفسهم، وفي مقدمتهم رئيسها عزيز أخنوش، الغائب الأكبر عن أي منبر إعلامي، وحتى الناطق الرسمي باسمها، الذي ادَّعى عبر “ميدي 1 تي في” أنه لا علم له بمطالب مجموعة “جيل زِد” التي وجهت للملك مباشرة، وأصبحت حديث وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وهو أمر يدفع للاعتقاد بأن الحزب الأول في الحكومة والبرلمان يتعامل مع هذه المرحلة بمنطق “تدبير الأزمة”، لا بقناعة “حدوث التغيير”.



