في مقاربته لموضوع تحولات الحقل الحزبي المغربي، قال محمد الساسي، عضو المكتب السياسي لحزب فيدرالية اليسار الديمقراطي، أن “جدار برلين المغربي” الذي كان يفصل بين الأحزاب التاريخية و”أحزاب الإدارة” قد سقط، وأن البلاد تتجه نحو نمط سياسي أقرب إلى حزب واحد بتلوينات متعددة، في ظل توافق عام حول مركزية الملكية، وصعود البرغماتية، وتراجع الإيديولوجيا، وظهور منافسين غير حزبيين، وصعود القيادات الشعبوية.
وأوضح الساسي، اليوم الأربعاء في ندوة حول الموضوع بكلية الحقوق السويسي، أن التمييز بين الأحزاب في المغرب لم يكن قائمًا على يمين ويسار، بل على التمييز بين كتلتين، مشيرا إلى أن الكتلة الأولى تتعلق بالأحزاب التي لا يمكن أن تقدّم تحليلاً أو قرارًا مناهضًا للقرارات والسياسات المزكاة ملكيا، موضحا أن هذه المجموعة تعتبر أن الديمقراطية في المغرب “لا يجب أن تكون بكامل قواعدها المعروفة، بحكم خصوصيتنا الوطنية والدينية”.
زواج الملكية والديمقراطية
وأبرز المتحدث نفسه أن الأدبيات الفرنسية تذهب إلى أن الملكية والديمقراطية متناقضتان، وقد يبدو ذلك من حيث المبدأ صحيحًا، لكن التجربة العملية سمحت بزواجهما؛ إذ تنازلت الملكية للديمقراطية، وكان المولود بعد هذا الزواج هو الملكية البرلمانية، موضحا أنه “حسب هذه المجموعة، كانت ترى أنه يجب أن يُترك للملك تحديد ما يمارسه وما يتركه للآخرين”.
أما المجموعة الثانية، وفق الساسي، فهي الأحزاب التي تُسمّى “الأحزاب التاريخية” أو “الوطنية”، والتي كانت تشذ عن هاتين القاعدتين أحيانا، مستحضرا أنه حين تحدث الملك الراحل الحسن الثاني عن التنازل عن فكرة المخطط لفائدة لحظة توقف، أجابت جريدة الاتحاد الاشتراكي بأنها ترفض هذا التوجه. وفي وقت آخر، قال الحسن الثاني إن اشتراكيته تُغني الفقير دون أن تفقر الغني، فنشرت جريدة العلم مقالا لعباس برادة يقول إن هذه الفكرة بلا أساس، ومرة قبل الحسن الثاني الاستفتاء في لقاء نيروبي، فعبر عبد الرحيم بوعبيد عن رفضه.
وتابع أن التمييز بين المجموعتين كان على أساس أن هناك مجموعة تعيش نوعًا من التبعية، نُشدان المنفعة الخاصة، متساهلة في طبيعة الوسائل الحزبية المضادة، غياب الحمية، العضوية الملتبسة، بدائية الآليات، ضعف البرامج العمل، والحملات الانتخابية المشخصنة، وغيرها”.
التوجه للحزب الواحد
وأردف “لكننا اليوم نتجه، على العموم، من تعددية الأحزاب إلى حزب واحد؛ فهناك نوع من التماهي المتبادَل”، إذ تؤثر المجموعة الأولى في الثانية، والثانية تؤثر في الأولى، وسقط “جدار برلين المغربي” بينهما وتلاشت الفروقات. وأصبح هناك اتفاق عام تقريبًا حول السيادة الملكية، وهي انعكاس لفكرة إمارة المؤمنين لدى المجموعة الأولى، أو تكريس لفكرة “الملك قائد المشروع التنموي أو الديمقراطي الحداثي” لدى المجموعة الثانية.
وأوضح أن هذه الأحزاب التاريخية انتقلت في طموحها من مرحلة “أول الحكم” إلى “المشاركة في الحكم” ثم إلى “التدبير”. فالجميع صوّت لصالح الدستور بلسان حال يقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان، مبرزا أن “ما يجمع المجموعتين اليوم هو أن المشاركة الحكومية أصبحت أولوية مطلقة، بحيث أصبحنا أمام حكومة ثلاثية شبه دائمة، والجميع مستعد للتنازل عن مطالب استراتيجية من أجل البقاء في الحكومة: قضية التطبيع مثالًا، وعدم أولوية النضال من أجل الديمقراطية”.
ولفت إلى أنه بالنسبة للأحزاب التي ظهرت بعد الاستقلال، والتي تسمى أحيانًا “الأحزاب الإدارية”، فنلاحظ اليوم أنها تتوفر على هيكلة وتحاول تدقيق برامجها وتتأثر بنتائج الملاءمة القانونية وبالرقابة المالية، وتنضم إليها أطر عليا وفنانون ومفكرون من المدن والبوادي، ولها مشاركة وحضور في النقابات والجمعيات، وتخلصت تدريجيا من الموسمية.
وأوضح أن “كل حزب في العالم يطمح إلى أن يتحول برنامجه إلى برنامج دولة، بينما في المغرب أصبح هدف كل حزب أن يُلائم برنامجه مع برنامج الدولة القار”، مضيفا أن “أحزاب الإدارة” لم تكن تعتبر أن هناك مشكلة دستورية، ومع ذلك صوّتت على دستور 2011. أما الأحزاب التاريخية، فقد كانت تقول لو لم يكن الفصل 19 موجودًا لابتدعناه، لأنها كانت تريد استعماله كجدار في مواجهة الإسلاميين.
ظهور الفاعل الإسلامي
أما التحول الثاني، وفق الساسي، هو الانتقال من المعادلة الثنائية إلى الثلاثية، مبرزا أن حزب الاستقلال كان يعتبر نفسه دائمًا هو الحزب الإسلامي، ثم جاء الإسلاميون وأصبحوا قوة أساسية في العالم العربي، بعد فشل المشروع القومي والاشتراكي والليبرالي، وانفتاح الخطط السياسية الغربية، وقوة الفاعل الحزبي الإسلامي.
ووضح أن المنافسة بين الإسلاميين والدولة حول خدمة الدين، مفيدا أن نقاط قوة الفاعل الإسلامي هي البساطة، ومسايرة الحس العام، والإصلاح في ظل الاستقرار، والشبكة الدعوية والخيرية، وادعاء الدفاع عن الهوية المستهدفة.
أما نقاط ضعفه فهي التفاوت بين القيادات، والفجوة بين المكتوب والشفوي، وفشل النموذج الأخلاقي الداخلي، والجمع بين مقاليد الحكومة والبرلمان، والاعتقاد بضرورة خضوع الدستور لسمو التعليم الديني والقرآني.
تحولات الخطاب والقيادات الشعبوية
وأشار الساسي إلى تحولات أخرى تتعلق بالانتقال من الخطاب الوطني والثورة الإيديولوجية إلى خطاب البرغماتية، ومن خطاب حماية الملكية إلى حماية منجزاتها و”الأوراش الملكية”، إضافة إلى تحول في مصادر القوة؛ حيث أصبحت النجاة والقرب من النظام هو المدخل لاستخلاص مصادر القوة، وتغيّر سلم الأسبقيات، مع التراجع العام في أدوار الفاعلين المجتمعيين.
وأردف الساسي أن الأحزاب باتت في مواجهة منافسين جدد غير حزبيين: الحراكات، الفضاء الأزرق، التنسيقيات، ثم مركزية الحقل الانتخابي وتأثيره المتبادل مع الحقل الحزبي، وظاهرة العزوف، وتقلص الفروقات بين المرشحين.
وأبرز أن “هناك تحول مرتبط بظهور نمط جديد من القيادات الشعبوية. فقد انتقلنا من القائد الوطني إلى القائد المفكر ثم القائد الضروري ثم القائد المؤسس، واليوم القائد الشعبوي. قد تقولون إنها ظاهرة عالمية، لكنها تتجلى محليًا في خطاب المظلومية والبحث عن الشعبية”.
واستحضر الساسي تحولا مرتبطا بعلاقة الأحزاب بين قوانينها الداخلية والقوانين العامة، مفيدا أن الدولة تصلح بنية الأحزاب، وليس الأحزاب ما يصلح بنية الدولة. فقد انتظرنا سنوات ونحن داخل أحزابنا نطالبها بإعمال قوانينها الداخلية، فترفض، فجاء النص الرسمي من وزارة الداخلية والقضاء ليفرض عليها ذلك.
أما التحول الأخير، وفق الساسي، فيتعلق بـ”التحولات على مستوى التحالفات والكتل السياسية؛ فقد أصبحت التنافسية داخل “العائلة السياسية الواحدة” تصل أحيانًا إلى الاصطدام. لم تعد هناك كتل ثابتة ولا تحالفات دائمة إلا داخل المجالس، أما في الحكومة فالجميع يتحالف مع الجميع، والتحالفات التي كانت تعتبر غير طبيعية أصبحت اليوم طبيعية، بل ممكنة ومقبولة”.


