ما تزال الزاوية القادرية البودشيشية تعيش على وقع جدل متصاعد منذ وفاة شيخها جمال الدين القادري بودشيش، بعدما فجّرت مسألة الخلافة نقاشات واسعة امتدت إلى خارج أسوارها، وزاد من حدة الجدل تداول رسالة “قديمة” منسوبة إلى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق، وُجهت إلى منير القادري بودشيش، حيث سارع البعض إلى ربطها بما يجري اليوم داخل الزاوية، غير أن مصدر مقرب من الوزير أكد لـ”الصحيفة “على ضرورة قراءة الرسالة في سياقها الأصلي، بعيدا عن أي تأويل سياسي أو توظيف إعلامي يربطها بما يحدث اليوم.
وأكد المصدر ذاته، الذي فضل عدم الكشف عن هويته أن الرسالة المذكورة التي جرى تداولها هي بالفعل حقيقية ووجهت من أحمد التوفيق لمنير القادري بودشيش بيد أنها مؤرخة في 28 أكتوبر 2022، أي قبل ما يقرب من ثلاث سنوات من المستجدات الحالية داخل الزاوية، وفي حياة الشيخ الراحل جمال الدين القادري بودشيش، وبالتالي فهي لا تعكس موقفًا من الخلافات الراهنة ولا يمكن اعتبارها جزءًا من “معركة المشيخة” كما تم تصويرها.
الرسالة، يضيف المصدر في حديثه لـ “الصحيفة”، جاءت في صيغة نصيحة روحية كتبها التوفيق بصفته مريدا منتسبا للطريقة البودشيشية، وليس من موقعه كوزير للأوقاف والشؤون الإسلامية، وهو ما يعني أن مضمونها لا يعبّر عن موقعه الرسمي داخل الدولة، وإنما عن رؤيته الشخصية باعتباره من أهل الزاوية.
وفي قراءته لمضمون الرسالة، شدد المصدر على أنها لم تتضمن أي موقف “مع أو ضد” منير القادري أو غيره من أبناء الشيخ تماما كما لا يزال الموقف هو نفسه اليوم، بل كانت أشبه بـ “تنبيه داخلي إلى المخاطر التي قد تهدد نقاء الطريقة إذا ما انجرفت إلى ممارسات غريبة عن التصوف الأصيل، على غرار التسرع في إقرار المشيخة أو الخوض في مسالك السحر والشعوذة التي تتنافى مع جوهر التربية الصوفية”، وقد استعمل التوفيق، في نصه، “لغة متواضعة هادئة تعكس انتماءه الروحي”، حيث أشار إلى أن “الطريق بيضة سريعة العطب”، في استعارة صوفية تحذر من هشاشة البناء الروحي إذا لم يَحْتَط المريدون بحكمة وصبر.
وأوضح المصدر أن الرسالة، كما انفرد بنشرها موقع “اليوم 24″، لم تكن دعوة إلى الانقسام أو الاصطفاف، بل بالعكس، هي تعبير عن حرصٍ على الوحدة، وعن رغبة في صون سمعة الزاوية من أي تصدع قد يحدث إذا طغت النزعة العائلية على متطلبات التربية الروحية الجامعة.
“إنها ليست وثيقة سياسية ولا بيانا تنظيميا”، يضيف المصدر، “بل هي نصيحة من داخل البيت البودشيشي، قُصد منها التذكير بما بُنيت عليه هذه الطريقة أي الذكر، الصفاء، التواضع، والبعد عن الأهواء”.
وعن محاولات توظيف هذه الرسالة في النقاش الدائر حاليا، شدد المصدر على أن ذلك “قراءة مغلوطة وخطيرة”، معتبرا أن الزاوية تمر بظرف دقيق يستوجب جمع الكلمة لا تشتيتها، مضيفا: “أحمد التوفيق، سواء كوزير أو كمنتسب للزاوية، لم يتدخل مطلقا في ما يجري اليوم، ولم يُصدر أي موقف رسمي أو غير رسمي، الرسالة التي يُعاد تداولها اليوم ليست إلا نصا قُدم بروح النصح قبل وفاة الشيخ، وليست لها صلة بالاصطفافات الراهنة من غير المنصف إقحامها في سياق لا تمت إليه بصلة”.
وختم المصدر حديثه بنبرة إصلاحية قائلا: “الزاوية البودشيشية إرث روحي عظيم للمغرب، وواجب المريدين أن يصونوه من التجاذبات والقراءات الضيقة.. ما تحتاجه الزاوية اليوم هو العودة إلى روح الذكر التي أرساها الشيخ حمزة رحمه الله، وتجاوز كل ما يمكن أن يُضعف إشعاعها الروحي.. ” مضيفا: “الرسالة التي كُتبت عام 2022 لم تكن إلا صوتا ينادي بهذا المعنى، ولا ينبغي أن تُقرأ إلا في هذا الإطار أي نصيحة روحية متواضعة، لا بيانا سياسيا ولا اصطفافا عائليا”.
ومنذ رحيل الشيخ جمال الدين القادري بودشيش، لم تهدأ تداعيات الخلافة داخل الزاوية إذ برزت خلافات عائلية حول من يقود المرحلة المقبلة، لتتحول إلى نقاش علني غير مألوف في بيت صوفي عُرف تاريخيا بالسكينة والصفاء فقد ظهر خلاف واضح بين من يرى أن الوصية المكتوبة تُعطي الشرعية لمنير القادري، باعتباره الوريث المباشر، وبين تيار آخر يلتف حول شقيقه معاد، الذي اعتبر نفسه الأحق بالمشيخة بحكم ممارسته القريبة من حياة الزاوية اليومية واحتكاكه المباشر بالمريدين.
وهذه الازدواجية فتحت الباب أمام تجاذبات غير مسبوقة بين المريدين، وزادت حدتها مع اقتراب ذكرى المولد النبوي، وهي المناسبة التي لطالما شكّلت امتحانا لوحدة الزاوية وتماسكها الروحي غير أن المخاوف تعاظمت من أن يتحول المولد هذه السنة إلى لحظة تكريس للانقسام بدل أن يكون مناسبة جامعة، خصوصا في ظل غياب توافق شامل داخل العائلة، وفشل المبادرات التي حاولت الجمع بين الشرعية العائلية والحكمة الجماعية.
وزادت الأمور تعقيدا حين جرى تداول رسالة قديمة للوزير أحمد التوفيق موجهة إلى منير القادري، والتي أُقحمت في قلب النقاش الراهن. ورغم أن الرسالة تعود إلى أكتوبر 2022 وتندرج في خانة ما يوصف بـ”النصيحة الروحية لا الموقف السياسي”، إلا أن تزامن إعادة نشرها مع اشتداد الخلافات غذّى التأويلات، قبل أن يُؤكد مقربون من التوفيق أن الوزير لم يتدخل يوما في مجريات الصراع الحالي داخل الزاوية.
وهكذا، تقف الزاوية البودشيشية عند مفترق طرق حقيقي فإما أن تُفلح في تجاوز هذه التجاذبات بالحكمة والتوافق الذي طبع مسارها لعقود، أو أن تنزلق نحو انقسام يضعف إشعاعها الديني والروحي، ليس فقط داخل المغرب ولكن أيضا خارجه، حيث تمتلك حضورا وسمعة بين مريديها في العالم.
وبين هذا وذاك، تبقى عيون المريدين مشدودة إلى ذكرى المولد النبوي القريبة، باعتبارها الاختبار الأوضح لقدرة الزاوية على تجاوز محنتها الراهنة واستعادة وحدتها المفقودة.



