الصحراء المغربية: من المسيرة الخضراء الى فعلية الحكم الذاتي

admin2 نوفمبر 2025آخر تحديث :
الصحراء المغربية: من المسيرة الخضراء الى فعلية الحكم الذاتي


في مستهل هذا المقال الجديد، لابد لي أن أبدي ما يغمرني من فخر واعتزاز وأنا أتابع لحظة الانتصار الدبلوماسي التي حققها وطني، لحظة تجسّدت فيها أناة المغرب وحكمته وذكائه في قرار أممي أنصف الحقيقة التاريخية وأعاد للقضية الوطنية إشراقها المستحق، معترفا بكل وضوح بوجاهة المقترح المغربي للحكم الذاتي كحلٍّ وحيد واقعي وذي مصداقية للنزاع المفتعل حول الوحدة الترابية للمملكة المغربية.

 لم يكن هذا القرار الذي صدر يوم 31 أكتوبر2025 تحت رقم 2797 حدثًا عابرًا، بل شكل لحظة مفصلية وحاسمة في تاريخ هذا الملف، بل في تاريخ المغرب المعاصر نفسه، لأنه يتوج مسارًا طويلًا من الكفاح الوطني، ومن العمل الدبلوماسي المتراكم، ومن الاعتقاد الراسخ في عدالة قضية وطننا الأولى.

 إننا، ونحن نعيش هذه اللحظة، لا نستشعر فقط طعم الانتصار السياسي، بل نلمس ثمرة الصبر والحكمة والتبصر، وندرك أن وحدة الوطن لم تكن يومًا خيارًا ظرفيا، بل قدرًا تجذر في الوجدان المغربي جيلاً بعد جيل، من طنجة إلى الكويرة.

لقد كانت قضية الصحراء المغربية منذ بدايتها قضية سيادة ووجود، أكثر منها قضية نزاع حدودي أو إقليمي. فالمغرب، بعمقه التاريخي والجغرافي والحضاري، لم يعرف في تاريخه الحديث قطيعة مع أقاليمه الجنوبية، بل كانت هذه الأقاليم دائمًا جزءًا من نسيجه الوطني، تشاركه الولاء والانتماء والمصير، وتظفر بحقها في التنمية الشاملة على غرار باقي اقاليم المملكة.

ومنذ المسيرة الخضراء سنة 1975، التي كانت أسمى تعبير عن الالتحام بين العرش والشعب، اتخذ المغرب مسارًا حضاريًا فريدًا في  حماية وحدة  أراضيه، إذ اختار طريق السلم والحوار بدل المواجهة، وطريق القانون الدولي بدل منطق الفرض بالأمر الواقع.

وقد شكلت تلك المسيرة بداية مرحلة جديدة من الوعي الوطني، حيث أدرك المغاربة جميعًا أن الدفاع عن الصحراء ليس مجرد واجب وطني، بل هو تجسيد لمعنى المواطنة الكاملة والوحدة التاريخية للأمة.

ورغم ما عرفه الملف من توترات ومحاولات عرقلة خلال العقود الماضية، فقد ظل المغرب وفيًّا لمنهج الحكمة وضبط النفس. لم ينجرّ إلى ردود الأفعال المتشنجة، ولم يسمح لخصومه أن يفرضوا عليه أجندتهم، بل اختار أن يواجه التشويش بالدبلوماسية، وأن يرد على الادعاء بالعمل التنموي، وأن يجعل من الصحراء المغربية نموذجًا للاستقرار والنهضة بدل أن تكون بؤرة توتر أو نزاع.

لقد أثبتت السنوات الأخيرة أن المغرب،حين يثق في نفسه وفي مشروعية موقفه، فإنه قادر على تحويل كل تحدٍ إلى فرصة، وكل ضغطٍ إلى إنجاز.

وهكذا أصبح الخطاب المغربي خطابًا مؤسسيًا متماسكًا، لا يركن إلى الانفعال، بل يستند إلى الحق، وإلى التاريخ، وإلى القيم الكونية التي تضع التنمية وكرامة الإنسان في قلب السياسات العمومية.

أما على المستوى الدولي، فقد استطاعت الدبلوماسية المغربية، بقيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله، أن تنتقل بالملف من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير. لم يعد المغرب يكتفي بتقديم دفوعاته في مواجهة خصومه، بل أصبح يصنع الحدث ويقود التوجه، ويُعيد ضبط البوصلة كلما دعت الضرورة.

 فالرؤية الدبلوماسية الجديدة للمملكة تقوم على تنويع الشراكات، والانفتاح المتوازن على مختلف الفاعلين، وإرساء علاقات مبنية على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.

 لقد عرف المغرب كيف يستثمر في العمق الإفريقي، وكيف يعيد بناء الثقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وكيف يمدّ جسور الحوار والتعاون مع أمريكا اللاتينية وآسيا.

 ومع كل خطوة، كان صدى الموقف المغربي يتردد بقوة محدثا تحولات هيكلية في مواقف الدول والمنظمات المؤثرة، حتى أصبحت المبادرة المغربية للحكم الذاتي تحظى بدعم متزايد واعتراف متنامٍ في مختلف القارات.

هذا الزخم الدبلوماسي لم يكن مجرد نجاح خارجي، بل انعكاس لثقة العالم في مصداقية المغرب واستقراره ومتانة مؤسساته وصلابة جبهته الداخلية.

ومن الدلالات البليغة لهذا التحول، فتح أكثر من ثلاثين قنصلية عامة في مدينتي العيون والداخلة، وهو ما يُترجم اعترافًا فعليًا بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وانتصارًا رمزيًا وسياسيًا لا تخطئه العين.

وفي خضم هذا المسار، جاء القرار الأخير لمجلس الأمن ليضع حدًا نهائيًا لأي غموض حول مستقبل هذا النزاع المفتعل. لقد أكد المجلس، بلغة واضحة لا لبس فيها، أن الحل الوحيد الممكن هو الحل السياسي القائم على الواقعية والتوافق، والمتمثل مباشرة في المقترح المغربي للحكم الذاتي.

وبذلك، فقد انتقل النقاش داخل الأمم المتحدة من سردية “الاستفتاء والانفصال” إلى منطق “الواقعية والحل الدائم”، وهو تحول يعكس إدراك المجتمع الدولي بأن مقاربة المغرب ليست فقط عادلة، بل عقلانية ومستقبلية.

 إن هذا الاعتراف الأممي لم يكن ثمرة ضغط أو صدفة، بل نتيجة منطقية لمسار من الالتزام والمسؤولية والانفتاح الذي انتهجه المغرب منذ سنوات.

 لقد ربح المغرب معركة الشرعية والمصداقية والمسؤولية في العمل الدبلوماسي ، ومعركة الفعل في آنٍ واحد، لأنه استطاع أن يُقنع العالم بأن وحدته الترابية جزء من استقراره السياسي ومن استقرار المنطقة ككل، وانه لا يفاوض حول وحدته الترابية بل حول النزاع المختلق حولها.

إن مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب سنة 2007 يمثل مشروعا وطنيا متكاملا يعكس رؤية متقدمة لمفهوم السيادة في القرن الواحد والعشرين. فالمغرب ينظر إلى الحكم الذاتي كترسيخ لسيادة رشيدة تؤمن بالتعدد والمشاركة والمسؤولية.

يقوم هذا النموذج على تمكين سكان الأقاليم الجنوبية من إدارة شؤونهم بأنفسهم من خلال مؤسسات منتخبة، ضمن احترام السيادة الوطنية ووحدة التراب المغربي. وهو بذلك يعكس تحول الدولة المغربية من منطق المركزية الصلبة إلى منطق الحكامة الترابية المتقدمة، التي تجعل من الجهوية رافعة للديمقراطية والتنمية في آن واحد.

 فالحكم الذاتي، بهذا المعنى، ليس فقط حلاً لنزاع سياسي، بل تجسيد لذكاء مؤسسي مغربي استطاع أن يوحّد بين ضرورات السيادة ومتطلبات الحداثة السياسية.

ولعل الأهم في هذا المشروع أنه يتناغم مع روح دستور 2011، الذي جعل من الجهوية المتقدمة إحدى ركائز النظام الدستوري للمملكة، القائمة على المشاركة والمساءلة والعدالة المجالية. فالحكم الذاتي، كما تصوره المغرب، ليس مجرد توزيع للاختصاصات، بل هو إعادة توزيع للثقة، وثقة الدولة في مواطنيها هي أعلى درجات النضج السياسي.

 إن تنزيل هذا المشروع عمليًا يقتضي رؤية منفتحة تجمع بين التنمية الاقتصادية والتمكين الاجتماعي، وبين الحفاظ على الاستقرار وضمان حرية القرار المحلي، في إطار من التضامن الوطني والوحدة الترابية.

لقد تجاوز المغرب اليوم مرحلة الدفاع عن حدوده إلى مرحلة بناء النموذج. لم تعد المعركة معركة جغرافيا، بل معركة فكر سياسي جديد، قوامه الحكامة والتنوع والمسؤولية المشتركة.

 فالعالم ينظر اليوم إلى المغرب كدولة استطاعت أن تحافظ على استقرارها في محيط مضطرب، وأن تُعيد تعريف مفهوم السيادة في زمن العولمة، وهذا في حد ذاته انتصار حضاري قبل أن يكون دبلوماسيًا.

فالمغرب لا يدافع عن أرضه فقط، بل يقدم درسًا في كيفية إدارة التعدد داخل الوحدة، وكيف يمكن لدولة متجذرة في التاريخ أن تجدد هياكلها دون أن تتخلى عن ثوابتها وهويتها الراسخة.

إن القرار الأخير لمجلس الأمن لا تكمن أهميته الاستراتيجية في كونه خطوة عملاقة على درب الطي النهائي للنزاع، بل أيضا في فتح صفحة جديدة أمام المغرب، عنوانها الثقة والسيادة والانفتاح. صفحة تؤسس لمرحلة جديدة قوامها ترجمة المبادرة المغربية للحكم الذاتي إلى نموذج سياسي متكامل يجسد روح المشاركة والمسؤولية في إطار الوحدة الوطنية.

إنها لحظة تستدعي من الجميع، مؤسساتٍ وهيئاتٍ ومواطنين، الإسهام في بلورة هذا التصور على أرض الواقع، باعتباره تعبيرًا عن نضج الدولة وإيمانها العميق بالحكامة الترابية كخيار استراتيجي.

 وفي هذا السياق، تبقى الدعوة مفتوحة أمام كل أبناء الوطن، ممن غُرّر بهم أو وجدوا أنفسهم خارج حدود الوطن الأم، للعودة إلى ترابهم تحت راية بلادهم وتحت العرش العلوي المجيد، لأن المغرب كان وسيبقى بيتهم الكبير، يحتضن أبناءه جميعًا بلا استثناء، في وحدة تتجاوز الجغرافيا وتحتفي بالانتماء والوفاء.

اليوم نعيش لحظة وعي وطني متجدد، لحظة فخرٍ واعتزازٍ بالانتصار الذي تحقق،  لحظة تجل آخر للعبقرية والنبوغ المغربي، لا لأن العالم و الشرعية الدولية أنصفت بلادنا،  بل لأن المغرب أنصف نفسه حين تمسك بثوابته وبإيمانه العميق بأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وأنه لا يُهزم ما دام وراءه شعبٌ يؤمن به وملكٌ يرعاه.

وفي هذا الأفق المتجدد، يظهر المغرب اليوم كقوة إقليمية راسخة، تُزاوج بين عمق التاريخ وذكاء الحاضر، وبين شرعية الموقف وفاعلية الرؤية. لقد نجح، كما قلنا آنفا، في تحويل قضيته الوطنية من نزاع مفتعل إلى رافعة استقرار وتنمية، وجعل من الدفاع عن وحدته الترابية مشروعا لبناء المستقبل لا استهلاك الماضي.

ومن خلال دبلوماسيته الملكية المتوازنة وريادته في محيطه الإفريقي والمتوسطي، أضحى المغرب شريكا موثوقا في صناعة الأمن والسلام، ومحركا رئيسيا للتعاون الإقليمي القائم على الاحترام والمنفعة المتبادلة.

وهكذا، يؤكد المغرب أنه لا يكتفي بالانتصار في معركة الشرعية، بل يكرس ذاته نموذجا لدولة تؤمن بأن السيادة لا تكتمل إلا حين تُترجم إلى تنمية، وأن الوحدة الحقيقية هي تلك التي تُبنى على المشاركة والثقة والانتماء.



Source link

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة