في قلب المدينة العتيقة بفاس، حيث الأزقة الضيقة تعج بروائح الجلد والتوابل والنحاس، وحيث تعكس الواجهات المتداعية لدكاكين صغيرة إرثا عمره قرون من الحضارة، يعيش الحرفيون اليوم واحدة من أصعب مراحلهم بعدما وجدوا أنفسهم وسط كساد خانق، يشتكون من عزلة السوق المحلية ومن تراجع السياحة، ومن تجاهل حكومي بات يثقل كاهلهم أكثر من الأزمة نفسها.
الحاج مصطفى، صانع الزرابي الذي قضى أربعة عقود خلف أنواله اليدوية، يجلس في دكان شبه مظلم وقد غطى الغبار زرابي لم تُبع منذ سنوات، يتأمل الألوان التي كانت يوما تبهر السياح وتُزيّن بيوت العرسان المغاربة، ثم يهمس بأسى أن الزبائن لم يعودوا يطرقون الأبواب وأن القاعات التي كانت تُخصص للزرابي في المعارض الكبرى تقلصت إلى مجرد أركان جانبية لا يلتفت إليها أحد.
يروي الحاج مصطفى، أحد أقدم صناع الزرابي في فاس وقد جلسنا معه في ورشته التي كانت في الأصل رياضا عتيقا عمره أكثر من مئة عام، كيف أن أبناءه الثلاثة رفضوا أن يسيروا على خطاه، موردا بحسرة عميقة: “كنت أظن أن ابني الأكبر سيتولى الأمر من بعدي، لكنهم جميعا رأوا أن المهنة لم تعد إلا طريقا مسدودا، بلا أفق ولا مستقبل.. كيف أقنعهم بأن يجلسوا أمام الأنوال لساعات طويلة من أجل أجر بالكاد يسد الرمق، بينما يسمعون يوميا أن الحكومة خصصت برامج بملايين الدراهم لدعم الصناعة التقليدية؟
هذه البرامج لا نراها إلاّ على شاشات التلفاز وفي خطابات رسمية، ثم تختفي وكأنها لم تكن ما تبقى لنا من أمل بدأ يتلاشى مع الحكومة الحالية، إذ لا يُعقل أن يُسند هذا القطاع إلى أشخاص لا علاقة لهم بالحرف، لا يعرفون معنى أن تشتغل يدك حتى تنزف، ولا يدركون قيمة الإرث الذي نحمله.
وبينما كان يُمرر يده على خيوط صوفية نصف منسوجة، استرسل بصوت متقطع: “الزربية اليدوية لم تعد تجد مكانها لأن السوق امتلأت بالزرابي المصنوعة بالآلة، فقبل سنوات كان هناك نوع خاص من الزبائن نسميهم نحن الحرفيون بالعشاق، هؤلاء لا يرضون إلا بالتحف الأصيلة، كانوا يعرفون قيمة النقشة والرمز والدلالة، يهتمون بالتفاصيل الصغيرة ويعودون ليحدثوك عن جمال قطعة اقتنوها. هؤلاء اختفوا، ومع اختفائهم فقدنا روح السوق.. اليوم الزبون يبحث عن الأرخص فقط، حتى لو كان بلا روح”.
يتوقف لحظة ثم يتابع وكأنه يحاور نفسه: “أحيانا أقول ربما نحن الذين لم نواكب التطور.. لكني أعود لأناقض نفسي وأقول إن التطور هو الذي يجب أن يواكب الصناعة اليدوية المغربية الأصيلة، لا أن يقصيها.
مضيفا: “المطلوب أن نجعل الحداثة في خدمة هذا التراث، لا أن نتركها تحجبه لهذا أقول للسيد وزير الصناعة التقليدية، لحسن السعدي زُر فاس، اجلس معنا في الورشات، استمع إلينا نحن أبناء الحرفة، فنحن الأعرف بتحدياتها ومشاكلها. نحن من سنقدم الحلول إذا أُعطيت لنا فرصة”.
ويحكي الحاج مصطفى لـ “الصحيفة” مثالا يحز في نفسه: “في فرنسا اليوم توجد قطع من الزرابي المغربية التي اقتنوها في السبعينيات والثمانينيات، هذه التحف لم تعد تُنسج في أي من جهات المغرب حين تضيع تحفة فنية كهذه فهي لا تُعوض أبدا..حتى الزربية الرباطية التي كانت رمزا واعتزازا، تراجعت أمام الزربية الصحراوية، الأذواق تغيرت، لكن الدولة لم تواكب ولم تحفظ التنوع. كنا نُصدّر الهوية المغربية عبر كل قطعة، واليوم الهوية نفسها صارت مهددة”.
أما حين يتحدث عن التكاليف، فتغلب على صوته مرارة الأرقام: “تكلفة صناعة الزربية تضاعفت ثلاث مرات في عشر سنوات فقط في الماضي كانت المعلمة التي تُشرف على الحياكة تأخذ 500 أو 600 درهم للمتر، واليوم وصلت إلى 900 درهم، إن وُجدت أصلا، لأن عددهن تراجع بشكل مخيف. هذه المهنة لم تعد تجد من يتعلمها النتيجة أن الزربية التي كنا نبيعها بـ1500 درهم للمتر أصبحت تُعرض بـ4000 درهم لكن أين الزبائن؟ الطلب انهار، والإنتاج تراجع معه”.
من جانبه، يتحدث الحسين، وهو تاجر زرابي تقليدية ورث المهنة عن أبيه، بلهجة يغلب عليها الغضب المكبوت: “الحكومة الحالية لم تكلّف نفسها عناء الجلوس معنا، كل شيء يُدار بعقلية إدارية جامدة، بعيدة كل البعد عن الواقع. الوزير الجديد شاب في مقتبل العمر لكنه لم يكن يوما صانعا تقليديا، لم يجلس في ورشة ولم يلمس معاناة الحرفيين حتى رؤساء الغرف لا يتواصلون معنا إلا في المناسبات. من المفروض أن يأتوا إلى الأسواق، يجلسوا في دكاكيننا يسمعوا همومنا ويشاهدوا كيف نعيش نحن لا نطلب المستحيل، فقط نريد شراكة حقيقية تجعلنا جزءا من الحل، لا مجرد رقم في تقرير حكومي”.
ويُضيف الحسين وقد بدا عليه الانفعال: “هذه الحرفة ليست تجارة عابرة، إنها هويتنا وذاكرتنا. نحن ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، ونخشى أن نعجز عن توريثها لأبنائنا إذا استمر الحال على ما هو عليه، سنفقد شيئا أكبر من مجرد مصدر رزق، سنفقد جزءا من ذاكرتنا المغربية”.
في حي الدباغين، ما زالت الصهاريج المملوءة بالألوان تحتفظ بقدرتها على جذب عدسات السياح، لكن هذه الصور المجانية لم تعد تُطعم البطون، عبد القادر، شاب في بداية الثلاثينات، غمس جلودا في صهريج مائل إلى الزرقة وهو يتحدث بحدة عن الأزمة: “نبيع بالكاد ما يكفي لشراء المواد الأولية، بينما الأسعار ترتفع باستمرار. الجلد الذي كان يذهب للتصدير إلى أوروبا توقف طلبه تقريبا، ومنذ الجائحة لم تستعد الحرفة عافيتها”.
ويضيف الشاب بنبرة غاضبة: “الدولة وعدتنا ببرامج لدعم التصدير وفتح أسواق جديدة، لكننا لم نر شيئا.. نحن نعيش على فتات زبائن محليين لا يشترون إلا للضرورة.”
في الأزقة القريبة من جامع القرويين، تتكدس أواني النحاس في المحلات، لكنها فقدت بريقها أمام المنتجات الرخيصة المستوردة من الصين وتركيا، الحاج حميد، الذي ورث الصنعة عن أبيه، يضرب بمطرقته بخفة على قطعة صغيرة ويقول إن صوته صار أصدق من الوعود الرسمية.
وتابع حميد في حديثه للصحيفة: “النحاس كان زينة البيت المغربي اليوم الناس يفضلون البلاستيك أو الألمنيوم. حرفتنا صارت ترفًا في زمن يبحث فيه الناس عن الأرخص، والحكومة تتعامل معنا كأننا غير موجودين.” يشير إلى كومة من الأواني التي لم تجد مشترين منذ شهور، ويؤكد أن تكاليف الكهرباء والضرائب تفوق أحيانا ما يجنيه في شهر كامل.
الواقع في 2025 أكثر قسوة مما يبدو.. تقارير مهنية تشير إلى أن آلاف الحرفيين غادروا الميدان في السنوات الأخيرة، إما بالهجرة نحو أنشطة تجارية بسيطة أو بالعمل في مهن بعيدة تمامًا عن الصناعة التقليدية فبعضهم تحول إلى سائقي سيارات أجرة، آخرون اتجهوا للبناء أو للتهريب الصغير نحو المدن الحدودية.
الجمعيات المهنية التي حاولت تنظيم صفوف الحرفيين تصطدم دوما بجدار البيروقراطية، إذ أن طلباتها المتكررة للحصول على دعم مالي أو إعفاءات ضريبية تبقى حبيسة المكاتب دون جواب، والحرفيون أنفسهم يتحدثون بمرارة عن اجتماعات دعوا إليها في فاس والرباط، قيل لهم فيها إن الحكومة خصصت عشرات الملايين من الدراهم لبرامج إنعاش الصناعة التقليدية، لكنهم لم يلمسوا أي أثر لذلك على أرض الواقع.
تقول مصادر مهنية لـ “الصحيفة” إن نسبة 60% من الحرفيين في فاس مهددون بالتوقف النهائي عن العمل خلال السنوات الثلاث المقبلة إذا استمر الوضع على ما هو عليه والسبب واضح غياب آليات تسويق حقيقية، وتراجع الإقبال السياحي، وغياب التمويل الميسر، وارتفاع تكاليف المواد الأولية التي تضاعفت أسعارها تقريبا منذ 2020، وهذا ما يؤكده محمد، شاب ورث حرفة الخياطة التقليدية، قائلا: “القفطان المغربي الذي نحيكه يدويا لا يستطيع منافسة القفاطين القادمة من آسيا بنصف السعر. الزبون لا يهتم إن كانت القطعة يدوية أو آلية، هو يبحث فقط عن السعر.”
المفارقة أن الحكومة ما تزال تتغنى في تقاريرها الرسمية بكون الصناعة التقليدية تشغل مئات الآلاف من المغاربة وتمثل وجها حضاريا للبلاد، لكن خلف هذه الأرقام تختبئ معاناة عائلات لا تجد قوت يومها، كثير من الحرفيين يؤكدون أن الدعم الوحيد الذي يصلهم هو بعض المعارض الموسمية، حيث يتم تصويرهم للترويج للسياحة، ثم يعودون إلى دكاكينهم الفارغة بل إن بعضهم يشتكي من أن المشاركة في تلك المعارض تكلف أكثر مما تدره من عائدات.
هكذا تظل أصوات المطارق والخيوط والأنوال في فاس حاضرة، لكنها أصوات مبحوحة تكاد تختفي وسط صمت رسمي مدو الحرفيون يموتون ببطء، ووراء كل باب مغلق في المدينة العتيقة تختفي حكاية صانع أنهكته قسوة السوق وتجاهل الدولة، وبات يخشى أن تُطوى صفحته دون أن يلتفت إليه أحد.
وحسب ما عرض عليه كاتب الدولة للحرف التقليدية خلال اجتماع عقده في فاس في فبراير 2025، يحقق القطاع ما يناهز 140 مليار درهم سنويا أي ما يعادل حوالي 7 ٪ من الناتج الداخلي الخام، وجزء كبير من هذا العدد يُشكل بمقدار 96.3 مليار درهم من الحرف الإنتاجية، والباقي من الحرف المرتبطة بالخدمات لكن، على الرغم من ضخامة هذا الرقم، فإن الواقع الذي يعيشه الحرفي في دكانه بعيد كل البعد عن السيولة الموعودة.
في جهة فاس مكناس، التي تضم ما يفوق 144 ألف حرفي و44 ألف وحدة حرفية، تصل مساهمتها إلى ما يُناهز 10.6 مليار درهم، أي 11 ٪ من إجمالي الحركية الوطنية للإنتاج التقليدي كما سجلت صادرات الحرف في هذه الجهة حوالي 143 مليون درهم في السنة الماضية، فيما يمتلك 641 حرفيًا علامة الجودة الوطنية (حوالي 25 ٪ من مجموع الحاملين لها في المغرب)، وتضم 525 مؤسسة حرفية (تمثل 23 ٪ من إجمالي المؤسسات على الصعيد الوطني).



