المحطة الأخيرة للنزاع المفتعل حول مغربية الصحراء  رشيد

admin2 نوفمبر 2025آخر تحديث :
المحطة الأخيرة للنزاع المفتعل حول مغربية الصحراء  رشيد


في عالم يزداد فيه الوعي بقيمة الإنسان وحقه في الكرامة والحرية، يصبح من الصعب تصور أن تستمر مأساة إنسانية لعقود تحت أعين المجتمع الدولي دون حل أو مساءلة. قرار مجلس الأمن رقم 2797 لسنة 2025 الذي رسّخ مرة أخرى واقعية وموضوعية مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، ليس فقط انتصاراً دبلوماسياً مستحقاً، بل هو أيضاً لحظة اختبار حقيقية للضمير العالمي. ففي ثناياه، تبرز الفقرة السابعة كصرخة إنسانية تتجاوز لغة السياسة لتضع العالم أمام مسؤوليته الأخلاقية تجاه آلاف المحتجزين في تندوف، أولئك الذين يعيشون خارج الزمن والقانون وكأنهم مجرد ظلال بشرية محاصرة في صحراء منسية.

وإذا كان المغرب قد حقق نصراً سياسياً يحفظ الحق ويجنب المنطقة اضطرابات خطيرة، فإن هذا النصر لن يكتمل إلا بتحقيق العدالة الإنسانية لمن تقطعت بهم السبل داخل المخيمات. هنا تتداخل القيم الانسانية مع السياسة، ويغدو الحديث عن الحق والحرية ليس ترفاً فكرياً بل ضرورة أخلاقية. فالسياسة التي لا تفضي إلى حماية الإنسان تصبح مجرد هندسة قوة، وفقدانها لمرجعيتها القيمية يحول الانتصار إلى معادلة ناقصة. لقد قالت حنة أرندت إن “الحق الأول للإنسان هو الحق في أن يكون له حق”، وفي تندوف سُلب هذا الحق من آلاف البشر؛ لا هوية قانونية، لا حرية تنقل، ولا صوت يصل إلى العالم. مجرد أجساد تنتظر اعترافاً بوجودها قبل أن تحلم بأي شيء آخر.

على مدى عقود، تحولت مخيمات تندوف إلى فضاء يجسد غياب القانون، حيث لا سلطة للدولة ولا محاسبة، بل مجرد إدارة سياسية تعيش على تحويل المعاناة إلى رأسمال تفاوضي. وبدل أن تقوم الدولة الحاضنة بواجباتها وفق القانون الدولي للاجئين، اختارت أن تجعل المخيمات ورقة استراتيجية لإطالة أمد نزاع اختُلِق خارج إرادة السكان، وتغذية سردية وهمية حول “شعب” لا وجود قانونياً أو ديموغرافياً له. فمن يُحرم من الإحصاء لا يمكن أن يكون صاحب مشروع سياسي؛ ومن يُمنع من إثبات هويته لا يمكن الادعاء بتمثيله. الحقيقة البسيطة أن أي إحصاء أممي نزيه سيكشف، لا محالة، وهم الانفصال وزيف الادعاءات التي يقوم عليها الخطاب الرسمي الجزائري، وسيفضح حقيقة أن جزءاً كبيراً من سكان المخيمات ليسوا من الأقاليم الجنوبية للمغرب، بل قدموا من دول الساحل والصحراء بفعل الحاجة أو الإغراءات أو التحكم القسري.

ولأن الحقيقة عادة لا تعبر وحدها، فضحت تقارير دولية، وعلى رأسها تقرير مكتب مكافحة الغش بالاتحاد الأوروبي (OLAF)، شبكات الفساد التي حوّلت المساعدات الإنسانية إلى مورد اقتصادي وسياسي. كشف التقرير أن المواد الغذائية والمساعدات لم تكن تصل إلى مستحقيها، بل كانت تُحوّل إلى أسواق وتُدار خارج القانون، بناءً على تقديرات سكانية منتفخة وغير محصاة عمداً. ما يعني أن حجب الإحصاء ليس سوى ستار لتضخيم الأرقام وضمان استمرار نزيف التمويل الدولي، في مشهد يُجسد فلسفة ميشيل فوكو حين تصبح الأجساد وسيلة للابتزاز لا كيانات إنسانية لها حقوق وكرامة.

في هذا السياق، تتعاظم مسؤولية المغرب اليوم. فبقوته الناعمة ودبلوماسيته الموازية، وبشبكة مؤسساته الحقوقية والنقابية ومراكز البحث والتفكير، دور مركزي يمكن أن يتجاوز الانتصار السياسي إلى انتصار إنساني حقيقي. حين يضع المغرب الورقة الحقوقية في صميم استراتيجيته، بعد أن رسّخ ورقته السياسية، فإنه يفتح ورشة عملية ليست فقط ملاذًا للأمل لمحتجزي تندوف بل أيضًا عامل ضغط يزعزع أركان منظومة الاختلال القائمة: سواء من حيث تفكيك رواية الانفصال المزيفة، أو في تقويض شرعية الممارسات القمعية التي تدعمها آليات النظام الجزائري ومليشيات البوليساريو.

هذه المقاربة متعددة الأبعاد قد تهيئ، أيضاً، أرضية قانونية وأخلاقية أمام محطات العدالة الدولية، إذ يمكن لجهود توثيق الانتهاكات ومتابعة ملفات الاختلاس والاتجار أن تشكّل مدخلاً لمساءلات دولية عن جرائم ترتكب ضد الإنسانية، أو على الأقل أن تضع مرتكبيها تحت مجهر المحاسبة والفضح الدولي.

اليوم يقف المجتمع الدولي أمام سؤال بسيط بقدر ما هو فاصل: هل يملك العالم الشجاعة لفرض إحصاء أممي نزيه، وإدخال المساعدات بشفافية، والسماح للمنظمات الحقوقية والإنسانية بالدخول دون قيود؟ هل يسمح النظام العسكري الحاضن للمخيمات بأن يرى العالم الحقيقة كاملة؟ إنها لحظة أخلاقية، ليس فقط اختباراً لصياغة ومصداقية قرارات أممية، بل لاختبار قدرة الإنسانية على النظر في المرآة دون خجل.

إن تحرير الحقيقة ليس عملًا سياسياً فحسب، بل تحرير إنسان من العدم. وما يحدث في تندوف ليس فقط نزاعاً إقليمياً، بل تجربة مؤلمة لطمس الهوية الإنسانية وصناعة “شعب على الورق”. وبمجرد إجراء الإحصاء، ستنكشف طبيعة الوهم، وسيتضح أن الأسر المغربية التي تنتظر أبناءها واحفادها يمكنها أخيراً أن تستعيد روابطها التي مزقتها الحسابات الإقليمية. والطفل الذي يولد اليوم هناك، بلا اسم ولا بلد ولا حلم، سيقول للعالم جملة تختصر كل المآسي: “أريد فقط أن أعرف من أنا وأين أنتمي”. عندها فقط سيتجلى المعنى الحقيقي للعدل، حين يستعيد الإنسان حقه الأول، أن يكون له حق.

ومما يعزّز هذا الأفق الإنساني الواعد، أن المغرب، ببعده الحضاري وعمقه التاريخي، لم ينظر يوماً إلى هذا الملف بمنطق الصراع الصفري أو التشفي السياسي، بل بمنطق البناء وجبر الضرر واستعادة الروابط الإنسانية. وقد عبّر جلالة الملك محمد السادس عن هذا الخيار الأخلاقي بوضوح في خطاب النصر، حين دعا إلى استقبال إخواننا المحتجزين في تندوف العائدين إلى الوطن بقلوب مفتوحة واعتبارهم جزءاً من نسيج الأمة، لهم من الحقوق والكرامة ما لكل مغربي، دون تمييز أو إقصاء.

ما عبّر عنه جلالة الملك في كل مضامين خطاباته، بما في ذلك الروح الأخوية التي خصّ بها الرئيس الجزائري، يشكّل أساساً أخلاقياً ورؤية استراتيجية متكاملة. فالمغرب لم يقتصر في مقاربته على الحسابات السياسية أو التنافس الإقليمي، بل وضع قيم الأخوة والاحترام المتبادل والإنسانية في قلب سياساته. هذه الروح الأخوية تتجلى في حرص المملكة على فتح أبواب الوطن لكل أبنائه، بما في ذلك المحتجزون في تندوف، دون إقصاء أو تمييز، وتجعل من العودة إلى الوطن حقاً طبيعياً وواجباً إنسانياً، وليس أداة تفاوضية أو ضغط سياسي. ومن هذا المنطلق، يصبح المغرب نموذجاً للدولة التي تبني استراتيجيتها الوطنية على العدالة الإنسانية، وعلى التزامها الأخلاقي العميق تجاه أبنائها، مع الاحتفاظ بمبادئ الحوار والاحترام في علاقاتها الإقليمية والدولية.

رشيد الكشرادي أستاذ باحث في تدبير الموارد البشرية والذكاء الاستراتيجي جامعة القاضي عياض، مراكش



Source link

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة