إنّ ما حصل للعرب يُشبه كثيرًا قصة الأرنب الذي نام في الطريق، ثم تفاجأ بعد استيقاظه بالسلحفاة التي كانت خلفه قد أصبحت أمامه. وحين استفاق العرب من غفوة الأرنب، صُدموا بالفجوة الحضارية التي تفصلهم عن الغرب، ذلك العدوّ التاريخي الذي لم يكن مستعمرًا فحسب، بل حاملًا لبذرة حضارة وحداثة وتنوير بما فيها من سلطة الغالب ومنطق التفوق.
وكانت الصدمة الحقيقية هي اصطدام هذه الحداثة، ذات الجينات الغربية، بجدار الموروث الثقافي والديني الخاص بالمجتمعات العربية، وهو ما جعل عملية التفاعل صعبة وأنتج تيارين مختلفين: أحدهما يدعو إلى تبني الحداثة والاقتباس من النموذج الغربي، والآخر يدعو إلى الحفاظ على الهوية واعتبار الآخر خطرًا يهددها. ولم تكن قضية المرأة بمنأى عن هذا الصراع، بل كانت من أكثر ميادينه جدلًا. وسنهتم في هذا المقال بالمرأة التونسية في الحركة الإصلاحية من ابن أبي الضياف إلى الطاهر الحداد، وصولًا إلى نتائج هذا الإصلاح وانعكاساته على واقعها اليوم.
وهو ما يطرح إشكاليات حول المكانة التي حظيت بها المرأة في المشروع الإصلاحي التونسي منذ القرن التاسع عشر وهل كان حضورها نابعًا من وعي حقيقي بضرورة الارتقاء بوضعها، أم مجرّد توظيف لخدمة المشروع الحداثي؟. إلى أيّ مدى استطاع دعاة الإصلاح زعزعة بنية المجتمع الذكورية؟ وهل كان الاقتباس من الغرب وسيلة لتحرير المرأة فعلًا، أم مجرّد تلميع لقيودها القديمة؟.
الجيل الإصلاحي الأول: رسالة في المرأة
برز الجيل الإصلاحي الأول في فترة حكم أحمد باشا باي(1806-1855) ومثلت المدرسة الحربية بباردو مقرًّا له وأولى مؤسساته، وقد ضمّت رافدين إصلاحيين: رافدًا عسكريًا مثّله كل من خير الدين التونسي،(1823-1890) والجنرال رستم(1820 1886)والجنرال حسين(1828- 1887) ورافدًا زيتونيًا أبرز أعلامه أحمد بن أبي الضياف(1804-
1874) ومحمود قابدو،( 1815- 1871) وسالم بوحاجب (1827-1924).
وقد شهدت تونس خلال هذه الفترة إصلاحات كثيرة نُسبت إلى الإصلاحية الأولى، أهمها إلغاء الرق، ووضع أول دستور عربي وإسلامي، إضافة إلى تعصير التعليم عن طريق تأسيس المدرسة الصادقية، وإنشاء المطبعة، وبروز صحيفة الرائد.
ومثّل كتاب” أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” الذي صدر في 1867م. لصاحبه خير الدين التونسي بمثابة بيان عُرضت فيه كل أفكار الجيل الإصلاحي الأول وتطلعاته في سبيل التقدّم والرقي، وجوهره الإصلاح السياسي الذي اعتبروه مخرج البلاد الوحيد من حالة التخلف التي تعيشها، إذ يجب الحدّ من حكم الإطلاق والاستبداد بالرأي، ولا يكون ذلك إلا بالتنظيمات، وتتمثل في القوانين التي تسير الدولة وتحدّ من سلطة الحاكم، معتبرين أن السرّ خلف تقدّم الغرب هو اعتمادهم لهذه التنظيمات.
ولا نجد في كتاب خير الدين التونسي أي إشارة إلى مسألة المرأة، لكن هذا لا يعني غيابها تمامًا، حيث كتب أحمد بن أبي الضياف، وهو أحد رموز الإصلاحية التونسية، رسالة في المرأة نُشرت بعد زمن من وفاته في حوليات الجامعة التونسية، العدد الخامس، وقد قدّمها وحقّقها الشنوفي سنة 1968.
وقد تضمّنت ثلاثةً وعشرين سؤالًا طرحها قنصل فرنسا، ليون روش Léon Roches (1809 – 1901) حول المرأة وتولّى ابن أبي الضياف الإجابة عنها، وهي: علّة سرور المسلمين بالمولود الذكر دون الأنثى، علّة منع النساء من التعلّم والعلوم، مسألة الزواج بالصغيرات، مسألة الحجاب، المهور، والتعامل مع المرأة كما لو كانت سلعة، تعدد الزوجات، مشكل ضرب النساء، بطالة نساء المسلمين، موقف الاحتقار للمرأة، التساهل في الطلاق وأضراره، التفاوت في الإرث، النظر للمرأة من حيث الجمال لا الأخلاق، منع النساء من الصلاة في المسجد، السماح لهن بالحج مع ما في ذلك من مخاطر، فكرة أن النساء لا يدخلن الجنة، زواج الكبير من الصغيرة، عدم الاهتمام بجنازة المرأة، زواج المسلمين من الفاجرات، الطلاق بسبب التطير، وكون نساء المسلمين لسن مَن يدفعن الأزواج إلى كريم الأفعال.
من الواضح أن أسئلة ليون روش لم تكن بتلك البراءة، فالغاية لم تكن معرفية بقدر ما كانت سعيًا لكشف هشاشة وضع المرأة العربية عامة ومقارنته بالحضارة الغربية. وقد انقسمت أسئلته إلى قسمين: قسم أنطولوجي أخلاقي يدور حول تعامل المسلمين مع المرأة والحط من منزلتها، وقسم تشريعي ارتبط بتعدد الزوجات والطلاق والتفاوت في الإرث.
والواضح أن الغاية كانت ضرب المرأة المسلمة وإقناعها بأن تخلفها نابع أساسًا من تخلف دينها، وهو تخلف دائم بدوام هذا الدين. لا شك أن إجابات أبي الضياف أكدت على تخلفها ووصف هذا الوضع بالعادي. ونأخذ مثالًا: سرور أهل البيت بالمولود الذكر دون الأنثى، كانت حجة الرجل أن الذكر خير من الأنثى، فهو الذي يعين والده على سبب الرزق والقيام على إرثه، كما استشهد بالموروث الديني في أولية خلق آدم وخلق حواء منه، واعتبر أن الأصل أفضل من الفرع. وهنا يُحمل ابن أبي الضياف جواب هذا السؤال إلى الدين، الذي أقر من الأزل بهذا التفاوت، فهو تفاوت طبيعي أنطولوجي منذ بداية الخلق، فيكون ظلم المرأة مشروعًا لدونيتها ونقصها وجوديًا ودينيًا وواقعيًا.
ثم أشار ليون روش إلى عدم تعليم المرأة المسلمة، وأجاب أبي الضياف يقول في هذا السياق: ” إن المرأة عند المسلمين إنما يجب عليها أن تتعلم ما يلزمها ضرورة في ديانتها من توحيد ربها وطاعة أمره من صلاة، صيام وحقوق زوجها واجتناب الفواحش من الزنا والسرقة وخيانة الأزواج وغير ذلك مما لا بد منه ولا تخلوا إمرأة من علم ذلك على الإجمال ولا فائدة لها في تعلم ما زاد على ذلك لأن الله خفف عنها ما أثقل به كاهل الرجل من الولايات المقتضية للعلم من امارة وقضاء وإمامة وقيادة وجيوش وغير ذلك وآية الحجاب مانعة لهن مم الاجتماع في المجالس حتى يتأنس بها الجليس..”. [ابن أبي الضياف، رسالة في المرأة (مخطوط). تحقيق وتقديم: المنصف الشنوفي،ص70].
يتضح من هذه الإجابة أن ابن أبي الضياف يحتج في منع تعلم المرأة بعدم حاجتها لعلوم غير معرفة دينها وتحديدا ما يلزمها لإقامة العبادات وارضاء زوجها أما تفقه في علوم أخرى لا يلزمها لأنها لا تقوم بما يقوم به الرجل إضافة لكونها محجبة والحجاب إحدى المسائل التي لم يغفل عنها روش وذكرها في مستويين: أولها حجب المرأة عن الزوج قبل الزواج، فلا يعلم ماذا يرى ليلة زفافه، مما يضره أو يسره حسب تعبيره، إلى جانب حجاب المرأة من حيث اللباس، فهي لا تخرج إلا مستترة.
وقد دافع ابن أبي الضياف عن الحجاب بنوعيه، فأمّا عن عدم رؤية الزوج لزوجته قبل الزفاف، فقد ذكر بأن النظر إلى المرأة قبل الزواج بها جائز في الملّة الإسلامية، وبرّر الشريعة بالعرف في قوله: إن الرجل ما يهمه في زوجته حسن دينها وليس جمالها، وذكر أن حجب المرأة في المنزل هو من مكارم الأخلاق، وقد حثّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
إن هذه الأمثلة تبرز بوضوح نظرة الفكر الإصلاحي الأول لوضع المرأة، باعتباره وضعًا عاديًا طبيعيًا لا حاجة لتغييره، فالتشريعات والأعراف عادلة، لا تشوبها شائبة الظلم، وبذلك لم يكن الهم النسوي مطروحًا في عهد الإصلاحية الأولى، فقد انصب اهتمامها بالإصلاح السياسي. والسؤال المطروح: كيف يجب التفكير في الحرية في ظلّ مجتمع يرى أغلال المرأة أمرًا عاديًا؟ وكيف يمكن لرجل كابن أبي الضياف أن يكون أحد رموز هذا الإصلاح؟ وما هي المرجعية الإسلامية التي يستقي منها أحكامه؟ وهل ستُوظّف مستقبلًا توظيفًا يخدم المرأة؟.
الجيل الإصلاحي الثاني: من الثعالبي إلى الطاهر الحداد
رحت مسألة المرأة من جديد في الجيل الإصلاحي الثاني وكانت أكثر جرأة حيث ازدهرت الصحافة الإصلاحية فبرزت صحيفة الحاضرة التي دعت بصريح اللفظ إلى ضرورة تحسين أوضاع المرأة، وجاءت افتتاحية سبتمبر 1889 بعنوان “النساء والكتابة” داعيةً إلى تعليم المرأة، فنما الوعي لدى الفكر الإصلاحي في عهده الثاني بأن أوضاع المرأة لا يمكن أن تستمر، ويجب إصلاحها في إطار إسلامي تجنّبًا لمخاطر المدرسة الفرنسية. وبذلك وقع توظيف المرجعية الإسلامية في سياق الدعوة إلى تعليم المرأة عبر أمثلة انتقائية تحث على وجوب تعليم دار المسلم والمسلمة، وهو ما يتعارض مع ما جاء في رسالة ابن أبي الضياف. سنلحظ أن الإصلاحية الأولى ترى في تعليم المرأة أحد مصادر المفاسد، كما أن مادة الاستشهاد من التراث الإسلامي قد تغيرت؛ فرسالة ابن أبي الضياف تستدعي ما يؤكد النزعة المحافظة، أما مقال الحاضرة فيستدعي ما يثبت عدم التناقض بين الإسلام وتعليم المرأة.
ويُعتبر عبد العزيز الثعالبي( 1876- 1944) أحد رموز الجيل الإصلاحي الثاني وشخصية ساهمت في مسألة المرأة، فقد كان رجلًا منبهرًا بتاريخ فرنسا الحديث، والذي يعتبره شبيهًا إلى حد ما بتاريخ الإسلام الأول، فهما يتفقان جوهريًا. يميز الثعالبي في كتابه “روح التحرر في القرآن” بين الإسلام كما كان في بدايته، وإسلام عصره، معتبرًا أن هناك اختلافًا بين الإسلامين: الأول تميز بروحه التحررية المتسامحة، والثاني قد علقت به العادات الفاسدة وهذا التمييز يمثل نقطة محورية في أطروحة الثعالبي، فالإسلام التحرري الأول شبيه بمبادئ الثقافة الفرنسية في الحاضر، وهذا يعني أن أسباب التقدّم والمدنية كامنة في الإسلام الأول الذي يجب العودة إليه، بإزالة ما علق به من عادات وتقاليد زائفة، كان المفسرون والعلماء هم من وضعوها.
ومن هذا المنطلق تأسست اللبنة الفكرية لقضية المرأة عند الثعالبي الذي كان أول المصلحين التونسيين الذين دعوا بكل وضوح إلى تحرير المرأة ، وكانت مواقفه إيذانًا بانقلاب جذري يتهدد البنية التقليدية للمجتمع التونسي. فرغم أن أسبوعية الحاضرة دعت إلى تعليم الفتيات إلا أنها ظلت حذرة في ما يتعلق بمسألة الحجاب، لا بسبب القناعات العقدية بل لمحاربة فرنسا التي تدعو إلى السفور، فكان الثعالبي أكثر جرأة في عرض مواقفه، ورفض الحجاب ودعا إلى سفور المرأة بعلة أنه ليس بفريضة مصدرها الإسلام، بل جاءت من الفقهاء والمفسرين توقيًا من الفتنة.
وقد عرض حججًا مبالغة عن ما ينتج من فرض الحجاب، كتغذية الخيال المريض ومحاولة فك لغز المرأى بممارسات شاذة في الأدب والفن واعتبر أن خلع ذلك الحجاب هو إيذان بتحرر المرأة ومحاربة الجهل والتخلف. ومن هنا نستنتج أن الثعالبي دافع عن أطروحة إصلاحية مفادها أن روح التحرر نابعة من الإسلام الأول، وموجودة في المجتمع الأوروبي المعاصر، وأن المرأة الغربية الحديثة هي أقرب إلى المرأة المسلمة الأولى قبل عصور الانحطاط الإسلامي.
لم يكتفِ رجل الاصلاح بدعوة نزع الحجاب، بل مضى إلى المطالبة بحق المرأة في التعليم، رغم أنه لم يكن سبّاقًا في ذلك، إلا أن ما يميّزه هو أنه يرى أن التعليم واجبًا لا شفقة. وربط الثعالبي بين التعليم والحجاب؛ فقد فُرض الحجاب على المرأة، ولو كان لها حظ في العلم، لوجدت أنه لا وجود لنص ديني يفرض عليها ستر وجهها والانزواء في بيتها.
مجمل القول أعلن عبد العزيز الثعالبي في قضية المرأة مواقف غير مسبوقة في عصره، وبحوثًا لم يجرؤ غيره على إثارتها، مثل مسألة السفور والحجاب، في مجتمع لا تزال تحكمه قبضة المنظومة الدينية التقليدية.
ودعم هذا ظهور صوت نسائي لأول مرة يدافع عن المرأة وحقوقها، فبرز النضال النسوي في مواجهة الحجاب في تونس العاصمة في عشرينيات القرن العشرين، وأبرز من عبّر عن ذلك منوبية الورتاني سنة 1924 والحبيبة المنشاري سنة 1929، حيث قامت المرأتان بالأفعال نفسها في المكان نفسه؛ فنزعتا الحجاب واختلطتا بالرجال، وألقتا محاضرتين من على منبر جمعية ثقافية فرنسية هي جمعية الترقي، ودعتا إلى حرية المرأة المسلمة.
ولم تكن المرأتان منتميتين لأي نخبة فكرية؛ الأولى كانت معلمة خياطة، والثانية كانت سكرتيرة، ولم يُسمع عن أي نشاط نسوي لهما من قبل غير حادثة نزع الحجاب، كما لم يقع التنسيق مع الحركة الوطنية، التي أدان زعماؤها ما حصل معتبرين أن الوقت لم يحن بعد لنزع الحجاب. فلقي النموذجان رفضًا تونسيًا وترحيبًا فرنسيًا. وهو ما يثير إشكال حول الطرف الذي وقف خلف هذه الممارسات الاستثنائية في المجتمع.
بعد ربع قرن من إصدار كتاب الثعالبي ظهر كتاب آخر يُعنى بمسألة المرأة، وكان بمثابة ا القنبلة الموقوتة التي أُلقيت على المجتمع التونسي. ففي سنة 1930 صدر كتاب “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” للزيتوني الثائر الطاهر الحداد (1899- 1935)المعروف بانخراطه في المعركتين السياسية والنقابية في مواجهة الاحتلال.
وقد تبنّى الحداد موقف الثعالبي، ورفض نسخة الإسلام التي صاغها العلماء والفقهاء، وميّز بين ثنائية “إسلام خالص” و”إسلام عرضي”، وجعل الإسلام منذ ولادته الأولى يحمل في كل مكوّناته، وفي صدارته القرآن، بُعدين: بعدٌ فوق تاريخي خالد لا يتغير، وبعدٌ تاريخي ليس على المسلم أن يتوقف عنده.
أنتج المزيج في تكوين الحداد، من حيث هو زيتوني مجدد وناقد جذري للمؤسسة وتعليمها، ومن حيث هو مناضل ضد الاحتلال الأجنبي، الحزبي والنقابي، نقلة نوعية في مسألة المرأة، حيث اتجه الحداد لأول مرة في تونس إلى فكرة المساواة بين الرجل والمرأة باعتبارها مساواة متجذّرة في الإسلام.
احتوى كتاب الطاهر الحداد على قسمين أساسيين: أولهما الشريعة، والثاني المجتمع. ينبني الكتاب على أطروحة جوهرية، وهي التمييز في الإسلام بين بُعدين:
البعد الأول: هو ما جاء الإسلام من أجله، وهو جوهره، ويتمثل كما عبّر عنه الحداد في عقيدة التوحيد، ومكارم الأخلاق، وإقامة قسطاس العدل والمساواة بين الناس.
والبعد الثاني: هو ما أتى به الإسلام من أحوال بشرية عارضة، وُضعت لها أحكامها.
والتطوّر حادث سواء قبل المسلمون بذلك أم لم يقبلوا، وأن الإسلام لا يعارض التطور، والمعارضة تأتي من الفقهاء الذين جمّدوا الفقه، وحكموا على التاريخ بالتوقف، وغفلوا عن مقاصد الشريعة، وابتعدوا عن سنّة الإسلام نفسه في تدرّج الأحكام.
والسؤال هنا: ما العلاقة التي تربط بين بعدَي الإسلام؟
الجواب هو المعيار الذي به يُعرف العرضي. وروح الإسلام عند الحداد هي إقامة العدل والمساواة بين الناس، فما جاء خلاف ذلك اعتُبر عرضيًا وليس من أغراض الدين الإسلامي. والأمثلة كثيرة في قضية المرأة، منها: نصيبها من الإرث، واختيار الزوج، وتعدّد الزوجات، والحجاب المفروض بمعنيَيه وانطلاقًا من أطروحته، أنشأ الحداد جملة من الاجتهادات المتعلقة بالمرأة.
وإن التمييز في الإسلام بين جوهري وعرضي سمح بتبديد تلك الهالة المقدسة التي تحيط بالأحكام المتعلقة بالمعاملات، ومنها أحكام المرأة في أبواب الفقه المختلفة كالنّكاح والميراث. وتأتي مسألة المساواة من سؤال صاغه الحداد:
هل يوجد في هذا الإسلام، من حيث هو عقيدة توحيد ومكارم أخلاق وإرادة إقامة قسطاس العدل والمساواة، موقف جوهري يقضي بنقصان المرأة؟.
وجوابه: إن الإسلام لم يُعطنا حكمًا جازمًا عن جوهر المرأة في ذاتها، ذلك الحكم الذي لا يمكن أن يتناوله الزمن وأطواره بالتغيير، وليس في نصوصه ما هو صريح في هذا المعنى. فكيف إذًا نفسّر الأحكام التي توحي بنقصان المرأة، في أن شهادتها نصف شهادة الرجل، وأن نصيبها من الإرث أقل من نصيبه؟.
يرى الحداد أن الأمر متعلق بفلسفة التدرج التشريعي، التي استغنى عنها الفقهاء بتركهم لروح الشريعة وتمسّكهم بالحرفيّ التقليدي.
يقول في هذا” لقد حكم الإسلام في آيات القرآن بتميز الرجل في المرأة في مواضع صريحة وليس هذا بمانع أن يقبل بمبدأ المساواة الاجتماعية بينهما عند توفر أسبابها بتطور الزمن ما دام يرمي في جوهره إلى العدالة التامة وروح الحق الأعلى” [1. الحداد، الطاهر. امرأتنا في الشريعة والمجتمع. تقديم: محمد الحداد. دار الكتاب المصري، القاهرة – دار الكتاب اللبناني، بيروت، 2011، ص36].
بهذا المعنى يوضح الحداد أن المساواة بين الرجل والمرأة ليس مستحيلاً ويمكن للفقه أن يتدرج إليها كما أنه استعرض مثال الخمر الذي حُرم على مراحل وكذلك الرق. وتعامل مع الأحكام التي يرى أنها لا تعبر عن روح الإسلام وفق ثلاث مراحل:
مرحلة أولى: يصف فيها وضع المرأة المزري في الجاهلية قبل الإسلام؛ ففي الإرث، هي جزء مما يُورث، وفي تعدد الزوجات لا نهاية له.
وهذه الصورة القاتمة تمهيد لصورة أكثر نورًا ظهرت في الإسلام الأول.
المرحلة الثانية: وصف فيها الحداد ما قدّمه الإسلام للمرأة في مختلف جوانب حياتها، سعيًا منه إلى إظهار مقدار التقدم في أحوال النساء مع ظهور الدين الجديد، وبيّن أن ذلك التقدّم كان متّسقًا مع روح التشريع الإسلامي في التدرّج ومراعاة الأحوال القائمة لترسيخها.
المرحلة الثالثة: وصف فيها كيف وقع الاحتيال على روح الإسلام من خلال تجميد الأحكام، والانتقال بها من كونها أحكامًا ظرفية طارئة إلى أحكام أبدية غير قابلة للتغيير أو التجاوز. ومن هنا يظهر مقترح الحداد الجوهري وهو: استئناف التدرّج، وعرض الأحكام على المقاصد.
ولننظر كيف طبّق منهجيته على موضوع الإرث مثلًا:
إن المرأة في الجاهلية كانت تُورث كما يُورث المال، وكان الرجل يرثها من أخيه، وينزل مكانه بحق الإرث. وورثة بيت أبيها هم أبناؤه الذكور فقط، وليس لها من الأمر شيء إلا أن يعطفوا عليها بالعيش في كنفهم، إن تخلّت عن الزواج.
ثم أتى الإسلام الأول، فأخرج المرأة في تصور الحداد من “حالة هي أشبه بالرّق”، وجعل لها نصيبًا في الإرث، لم يكن لها منه شيء سابقًا.
وعرض الكاتب آيات الإرث جميعًا، مبينًا مقادير الإنصاف فيها، لكن بقي السؤال:
لمَ أبقى الإسلام على التفاوت؟ أما كان الأجدى، باعتبار أن مقصده العدل والمساواة، أن يحققهما؟
جواب الحداد على هذا السؤال في قسمين:
أولًا: إن التشريع الإسلامي، على حكمته وتأنّيه في التدرج، كان مع هذا شديد الوقع على المسلمين، غير محتمل.
ثانيًا: إن الإسلام عُذرُه في إبقاء التفاوت هو مراعاة أحوال الناس؛ ذلك أن الأعباء المفروضة على الرجل لم تكن مثل أعباء المرأة، مما يجعل القسمة – على ما فيها من تفاوت – هي الممكن الأقصى الذي يصعب تجاوزه.
مثّل الجيل الإصلاحي الثاني نقلة نوعية في مسألة المرأة، حيث نادى روّاده بتحرّر المرأة تدريجيًا: من المطالبة بحقها في التعليم عبر أسبوعية الحاضرة، إلى الدعوة إلى السفور ونزع الحجاب بلسان الثعالبي، وصولًا إلى توجيه البوصلة نحو المساواة بين الرجل والمرأة عند الطاهر الحداد.
نقائص المشروع الإصلاحي في قضية المرأة:
لم تمنع مكانة ابن أبي الضياف في التاريخ النضالي التونسي من وقوعه في الخطاب الذكوري المرتدي لبوس الدين، فابن أبي الضياف لا يُقدّم حججًا أو تفكيكًا للمسألة، بل يدافع عن الراهن باسم الوحي وعنده ما هو كائن ينبغي أن يكون. فهو لم يُعالج مسألة المرأة، بل لم تكن هناك “مسألة” عنده من الأساس.
يرى ابن أبي الضياف دونية المرأة واعتبارها إنسانًا من الدرجة الثانية أمرًا وجوديًّا أثبته الدين نفسه، ويستند في ذلك إلى أسبقية خلق آدم لإثبات أفضليته على حواء، وهي حجة ضعيفة نوعًا ما، فأسبقية الخلق لا تعني الأفضلية الأنطولوجية، وإلا لكان إبليس، الأسبق من آدم، هو الأفضل.
كما يسوغ حرمان المرأة من التعلّم بحجة أن الانشغال بالعلوم يُنفر الزوج منها أو يحيل دون ممارستها واجباتها كزوجة، وكأنّ المرأة خُلقت لتُضحّي فقط في سبيل إرضاء الرجل وإسعاده. لكن، هل الجهل ضمان للاستقرار الزوجي؟ ولماذا قد يُبعد التعلّم الزوجة عن زوجها؟ لماذا لا نمنع العلم عن الرجل لنفس السبب؟.
إنها حجة واهية جدًا، أوقعت ابن أبي الضياف في فخ التبعية؛ إذ يُصوّر المرأة ككائن خُلِق لإمتاع الرجل وخدمته، لا يحق لها أن تحلم أو تحقق شيئًا خارج إطار إرضائه. والحال أن الخطاب القرآني دعا للعلم وكرّم العلماء، ولم تكن دعوته موجهة للذكر وحده.
إننا، حتمًا، ونحن نقرأ رد ابن أبي الضياف على أسئلة الداهية ليون روش، نقف أمام عقلين: عقل غربي درس الحضارة الإسلامية جيدًا واكتشف إحدى أكثر ثغراتها ضعفًا وقوة في الآن ذاته، وهي المرأة التي تنزوي في الظلام، لا يعلم بوجودها أحد، لا يحق لها الاختيار، وتُطمس كل أحلامها بسلطة الدين، وقد تتمسك في أية لحظة باليد التي ستخرجها من هذا الظلام وتعطيها وعود النور، حتى لو كانت زائفة، وحتى إن ظلّت تُقنعها بأن دينها سبب تخلّفها وأغلالها.
وعقل عربي تقليدي، يخاف المرأة أكثر مما يخاف عليها، يُحمّل الدين عقدة التفوق الذكوري، ويؤول النصوص تبعًا لهذه العقدة، فيرى المرأة كائنًا ناقصًا دينيًا ووجوديًا وعقليًا، لا يمكن أن يكون سوى تابع لرجل يخدمه ويمتعه ويعيش من أجله. والمشكلة الحقيقية تكمن في أنه يرى هذا الوضع أمرًا عاديًا، لا داعي لتغييره.
وبالتالي، لم يكن ابن أبي الضياف، وهو من رجال الإصلاحية الأولى، يعرف أن الطريق نحو الإصلاح لا يمرّ إلا عبر إصلاح جذري لوضع المرأة، باعتبارها لبنة الأسرة المكوّنة للمجتمع وللأمة. وبتغييبها وتهميشها وإفراغها من جوهرها، لن تقوم هذه المجتمعات.
أما بالنسبة لثعالبي، فقد كان واعيًا بخطورة وضع المرأة، إلا أنه وقع في فخ الانبهار، شأنه في ذلك شأن أغلب رجال الإصلاح. فقد رفع شعار العودة إلى الإسلام الأول وربطه بالثورة الفرنسية، وهي مقارنة لا تستقيم وتتجاوز الفوارق الثقافية والتاريخية.
أولًا، لأن الثورة الفرنسية وليدة صراع طويل ضد هيمنة الكنيسة، وككل الثورات في العالم لها نقائصها وآثارها الجانبية. أما الإسلام، فهو دين وُلد في بيئة عربية بدوية تسيطر عليها العادات والتقاليد ومنطق القبيلة والوثنية، فجاء ليحرّرها من كل هذا ويدعو أهلها إلى التوحيد ومكارم الأخلاق، فلا معنى أبدًا لأن يكون دين سماوي شبيهًا بثورة وضعية.
أما عن شعارات الحرية والعدل، فتلك فضائل يسعى إليها الإنسان، وترفعها كل الأديان والثورات. كما أن الثعالبي يربط تقدم المرأة بنموذج المرأة الغربية السافرة، دون أن يسأل: هل نالت هذه المرأة فعلًا حريتها؟ أم أنها مجرد جسد يُستغلّ ويُعرض بحجة الحرية؟.
إن الأمر أصبح شبيهًا بأن نقدّم حذاءً ضيقًا ونطلب من المرأة السير به مهما شعرت بالألم، المهم أن تبدو “متحررة” على النمط الغربي الذي يُقدّم كأرقى نموذج للحرية.
إنها مغالطة كبرى وقع فيها الرجل، فبدل البحث عن نقاط الاشتراك بين القوانين الفرنسية والأحكام القرآنية، وبدل الدعوة للتشبه بنموذج المرأة الغربية، كان الأجدر معالجة ما ترسّب من نظرة دونية للمرأة، سبَبُها الأول مؤسسة التأويل الذكوري.
كما أن اعتبار أن المرأة ستتحرر بمجرد خلع حجابها وخروجها من المنزل، هو نظرة اختزالية في المظهر والجسد. يجب أولًا تحرير وعي المرأة ومنحها قدرة الاختيار؛ فاللباس لم يكن مشكلة ولن يكون، سواء اختارت أن تغطي نفسها أم لا.
لكن المشكلة في وعيها بالسبب: هل هو ديني صرف؟ مع غياب حجة دينية واضحة بهذا الشأن؟ أم نابع من سلطتها على جسدها وعدم الرغبة في إظهاره، انطلاقًا من حياءٍ تميزت به المرأة العربية، لا من منطلق أنها “عورة” يجب أن تتوارى عن الأنظار.
لقد كان الطاهر الحداد أكثر رجال الإصلاح جرأة في ما يتعلق بموضوع المرأة، حيث قدم في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” رؤية إصلاحية جريئة حاول من خلالها أن يوفق بين الدين والحداثة إلا أن هذه المحاولة رغم أهيمتها لا تخلو من إشكاليات تستوجب النقد.
لقد انطلق الحداد من تمييز بين ما سماه الإسلام الجوهري المتمثل في مقاصد الشريعة والقيم الكبرى كالعدل والمساواة ومكارم الأخلاق والإسلام العرضي والذي يشمل الأحكام الفقهية التي ترتبط بظرفية تاريخية معينة. وهذا التقسيم يطرح إشكالات على مستوى التطبيق يجعلنا نتسائل عن من يملك السطلة ليحدد ماهو جوهري وماهو عرضي في الإسلام؟
والمشكلة الأخرى هي اعتبار أحكام واضحة كالميراث من ” العرضيات” القابلة لتجاوز وهو بهذا المعنى يتعامل مع نصوص قطعية كظرفية قابلة للإلغاء ما يفتح الباب لتأويلات ذاتية لا نهاية لها تحول كل النصوص عرضيات وبالتالي يفرغ النص الديني من مضمونه التشريعي وأحكامه فيصبح مجرد عرض لقيم مثلى عامة.
أما الإشكالية الأخرى فهي تعامل الرجل مع قضية المساواة بين الرجل والمرأة فهو يسحب هذه المساواة على كل المجالات حتر تلك التي أقر الشرع فيها بوجود تمايز وظيفي كالإرث والقوامة، صحيح أن الاسلام يساوي بين الجنسين في الكرامة الإنسانية والدعوة المحمدية والخلاص الأخروي لكنه يقر بوجود الاختلاف الوظيفي الذي تفرضه الفروق البيولوجية والنفسية.
إذا يمكننا أن نقول في النهاية إن لا ابن أبي الضياف ذو النظرة الذكورية، ولا عبد العزيز الثعالبي المنبهر، ولا الطاهر الحداد المثالي، قدّموا مشروعًا متكاملًا لتحرير المرأة العربية، والتونسية خاصة رغم اسهامات كبيرة للرجال الإصلاحية الثانية، مشروعًا ينطلق من نقد عميق للبُنى الاجتماعية والمسلمات الراسخة، ووعي بالخصوصية الثقافية، وقراءة متزنة للنص. فكلّ واحد منهم كان أسير مرجعيته: الأول أسير الماضي، والثاني أسير الغرب، والثالث أسير المثل إلا أنه، رغم هذا، لا يمكننا إنكار أن جيل الإصلاحية الثانية قد أحدث تغييرًا في وضع المرأة.
إذ حققت المرأة التونسية خلال العقود الأخيرة نقلة نوعية في ممارسة حقها في التعليم والعمل والمشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية، واقتحامها ميادين كانت لأمد طويل حكرًا على الرجال.
ومن أبرز الأمثلة الأيقونية نذكر المناضلة راضية الحداد(1922-2003) التي كانت أول من اعتلى منبر النضال السياسي، و توحيدة بن الشيخ(1909-2010) طبيبة مسلمة عربية، إضافة إلى بشيرة بن مراد(1913-1993) أول رائدة حركة نسائية في تونس، والقائمة تطول من النساء اللاتي أثبتن أن المرأة عقل أيضًا، وليست مجرد جسد.
نحو نموذج توفيقي:
يُعاد طرح السؤال الأخلاقي حتى داخل التيار النسوي ذاته، تزامنًا مع بروز ظواهر من التدني القيمي والانسلاخ عن الهوية وهو ما تسبب في تفكك الأسرة وتدهور المجتمع، باعتبار أن المرأة كانت ولا تزال حجر الأساس للعائلة.
إن التحرر في شكله الإيجابي هو تحرر المرأة من النظرة الدونية لها، والسعي نحو ممارسة حقوقها الطبيعية كإنسان فاعل في المجتمع، شرط أن تحترم ذاتها والآخر، وألا تكون حريتها أذية لغيرها.
أما في جانبه السلبي، فهو كسر الضوابط الأخلاقية، والتملص من القيم الدينية والاجتماعية، واختزال الحرية في اللباس، وتقليد نموذج المرأة الغربية. وإننا على مستوى المجتمع التونسي نقف أمام صورتين للمرأة التونسية:
الأولى على النمط العربي التقليدي في لباسها، لغتها، وتمسكها بعادات العائلة وأخلاقيات الجسد، وتدور حياتها حول مفاهيم الستر، الحياء، العار، والشرف.
أما الأخرى، فهي على الطراز الغربي، تعتمد اللغة الأجنبية أكثر من العربية، وملابسها تعكس الذوق الغربي، وكذلك مفاهيمها التي تدور حول الحرية الشخصية، الفردانية، الجمال، الموضة، والرقي والتحضّر.
إن الصورتين مختلفتان حد التناقض، وهو ما يُفسّر عمق الاختلاف بينهما وطريقة نظر كل امرأة إلى الأخرى؛ فالأولى تتهم الثانية بالانحلال والتعري، والثانية تتهم الأولى بالرجعية والتخلف. دون أن يكون لنا صورة توحّد بين الاثنين.
المشكلة إذًا جذرية، تتمثل في غياب أرضية واضحة تضع حدودًا للحرية كي لا تصبح انفلاتًا. لقد عاشت المرأة لأمد طويل تحت وزر عادات وتقاليد قاسية جعلتها تشعر بدونيتها، وكأنها متاع للرجل، توضع دائمًا في الظلام، لا تتحدث، ولا أحد يسمع لها. وعندما قررت الخروج، أعمى الضوء عيناها من شدة بريقه.
لقد بلعت الحرية دون أن تهضمها، وكان الجانب الغربي ينتظرها بفارغ الصبر لتخرج.
فالـغرب يتطلّع دائمًا لمعرفة المرأة العربية التي تتخفى عن الأنظار من خلف جدران أو بحجاب يغطي وجهها. وما إن عرفوها، حتى بدأت عروضهم المجانية عن “الحرية” و”الجسد”، حتى تشكّلت امرأة غربية في بيئة عربية، ترى ثقافتها ودينها رجعية، ومهددًا أول لحريتها.
هذا ما تعيشه المرأة التونسية اليوم، ممزقة بين من تحاول العودة إلى روح الإسلام وتودّ لو تُقفل على نفسها الباب ولا تخرج، وتُعيد غطاء وجهها كي تُطبّق ما تعرفه عن الدين، بدعوة رجال يرون أن مأزق الدين في المرأة، وأن عليها الستر كي لا تجذب شهوة رجل لا يفرض على نفسه غض البصر.
وبين امرأة “غربية” قررت أن تُبعد عنها الدين والتقاليد، ورأت في الغرب الخلاص، تقلده لتهرب من صورة المرأة العربية التي رسّخها لها الغرب، وهي صورة مهزومة ودونية إلى أقصى حد.
إننا حتمًا أمام مفارقة سيكولوجية وأزمة هوية. لكن أيٌّ من هاتين المرأتين هي النموذج الأصح؟.
لا يستوجب تحرر المرأة العربية قطيعة مع الموروث الديني والثقافي كما لا يعني أيضا الإنغلاق على الحداثة فالمشكلة ليست في الحجاب ولا في السفور بل في كيفية ممارسة الحرية ممارسة لا تجعل من المرأة أسيرة لنموذج غربي يُسلع المرأة ويختزلها في الجسد أو نموذج تقليدي يختزلها في الوظيفة الإنجابية.
إن المرأة الغربية لا تفرق عن المرأة العربية إلا في بعض الفروقات الطفيفة فهي أيضا تعاني من الاستغلال خاصة استغلال الإعلام والموضة وسلطة الإشهار والجنسانية والتحرش إنها لاتزال مكبلة بأغلال ذاتها لكنها ملمعة أكثر لذلك لا توجد فائدة في محاولة تقليدها أو اعتبارها المثال الأعلى لأننا لا نستورد نموذج امرأة متحررة بل المزيد من المشاكل، إذًا كيف نصنع نموذجا متوازنًا؟.
يجب أولا أن تتصالح المرأة العربية والتونسية مع الدين الذي كرمها وقدم لها حقوقا لم يكن الرجل في الجاهلية يعترف بها، ويجب أن تعي أن المشكلة ليس في الدين بل في الممارسات التاريخية والتأويلات التي جلعت من المرأة تابعًا.
أما بالنسبة للإنفتاح لا يعني أبدا الذوبان والتفكك فيمكننا أن نأخذ من الغرب التعليم الحديث التكافؤ في الفرص والقوانين دون أخذ مشكلاته ونقائصه المتعلقة بالجسد.
ففي التعليم يجب على المرأة العربية أن تدرس العلوم الحديثة واللغات وكل ما ينفعها إلى جانب ما يساهم في ترسيخ هويتها ما تعلق بدينها وثقافتها العربية الأصيلة كي لا نتفاجأ بامرأة تتقن الفرنسية ولا تعرف عن قواعد اللغة العربية شيئا من هناك تكمن هزيمتنا عندما نقتنع أن هويتنا وثقافتنا لا تستحق أن تدرس ويهتم بها.
أما في العمل فيجب أن تضمن حقوقها المهنية كاملة دون اجبارها عن خلع حجابها للتوظيف. وفي الجانب التشريعي نحتاج قوانين صارمة تحمي المرأة من العنف بكل أشكاله إلى جانب قوانين تجرم كل من يحاول التأثير على أخلاقيتها وأخلاقيات المجتمع حتى لو كانت المرأة نفسها تفعل ذلك لأن تدني المستوى القيمي هو الذي يوقع المرأة في فخ التبعية والنظر إليها بدونية. يجب على المرأة التونسية، خاصة، والعربية عامة، أن تكون معتزة بثقافتها وأصولها ودينها، وفي الوقت نفسه منفتحة على ما تراه لا يتعارض مع خلفيتها الثقافية.
كون المرأة تعمل وتحقق نجاحات باهرة، خاصة على الصعيد العلمي، فهو أمر لا يرفضه الدين الإسلامي الذي دعا للعلم وكرّم العلماء، وأمر باستخلاف الأرض، موجهًا خطابه للذكر والأنثى معًا. ولكن شرط أن لا تنقلب على هويتها ثقافتها، وتصبح صوتًا غربيًا ضد نفسها، ويصبح جسدها، الذي أخبروها أنه ليس ذنبًا لتخفيه، مصدر تشيئها وتسليعها، بحيث لا يُرى سوى له، ويُنسى عقلها وإبداعها، كما لا ننسى تلك الكذبة البيضاء المغلفة بوهم النضال وهي المساواة بين الرجل والمرأة لأن المساواة تعني أن يقع معاملة الرجل والمرأة معاملة متطابقة على مستوى الحقوق والواجبات وهذا ما يرفضه العقل والفطرة فلا مساواة الا في ما تشابه. بينما ما تحتاجه المرأة هو العدل أن يعطى كل شخص ما يستحقه وحسب مؤهلاته النفسية والجسدية فإن لم يحصل ذلك فكأنما تعطي لطفل جرعة دواء للبالغين ستحقق المساواة لكنك ستقتله.
إذا تحرر المرأة لا يُقاس بكمّ القوانين والتشريعات، ولا بعدد النساء في المناصب المهمة، بل يُقاس بقدرتها على أن تواجه رياح الثقافة الغربية دون أن تفقد جذورها وتتخلى عن ذاكرتها. يُقاس بمدى اختيارها وتمييزها بين الانحلال والحرية وبين المساواة والعدل. كي لا تصبح غربية بجينات عربية ورجل في جسد إمرأة.
ختامًا، لا يمكننا أن نفهم مسار تحرر المرأة التونسية إلا داخل السياق التاريخي والثقافي والدين فالمرأة وهي في طريقها للحصول على حقوقها وجدت نفسها أمام نموذجين متناقضين الأول يسحبها إلى المحافظة إلى درجة الانغلاق، والثاني يسلعها باسم الحداثة وبين هذين النموذجين فقدت كثير من النساء بوصلتهن.
إن صراع المرأة الحقيقي ليس في اللباس ولا في المناصب، بل في القدرة على استعادة هويتها والتوفيق بين حقها في الحرية وواجباتها تجاه مجتمعها فلا التحرر يعني أن ننكر الدين ولا المحافظة تعني الجمود.
لقد آن الأوان لصياغة نموذج توفيقي ثالث، لا منغلق ولا منبهر، يعترف بكرامة المرأة ويثق فيها ولا ينظر إليها بدونية، لأن المرأة حين تحاربها بيئتها سوف تظل حبيسة نظرة التعالي في كل البيئات التي تدخلها يجب أن لا تظل المرأة العربية كما قالت المهندسة العراقية زها حديد” حاربني الغرب لأنني عربية، وحاربني العرب لأنني إمرأة”.
باحثة وأستاذة تونسية
قائمة المصادر والمراجع:
• الحداد، الطاهر. امرأتنا في الشريعة والمجتمع. تقديم: محمد الحداد. دار الكتاب المصري، القاهرة – دار الكتاب اللبناني، بيروت، 2011.
• ابن أبي الضياف، أحمد. رسالة في المرأة (مخطوط). تحقيق وتقديم: المنصف الشنوفي. نُشر في: مجلة الفكر، عدد 5، 1 جانفي 1968.
• الثعالبي، عبد العزيز. روح التحرر في الإسلام. تعريب: حمادي الساحلي، مراجعة: محمد المختار السلامي. دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1985.
• شوشان، منية. “مسألة الحجاب والسفور في تونس خلال الثلث الأول من القرن العشرين.” مجلة إنسانيات، المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا، العدد 2، 2017.
• راشد، هدى. “الطاهر الحداد وتحليل قضيّة المرأة التونسية.” موقع إضاءات.
الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة


