تبدو الجغرافيا في ظاهرها معطى طبيعيا صامتا، تمنح الأمم حدودا ومجالات وموارد، لكنها في جوهرها ليست ضمانة تلقائية للقوة ولا مقدمة حتمية للتفوق، بل إن التاريخ يعلمنا أن الجغرافيا لا تنطق إلا حين تمتلك الأمة إرادة واعية، وسياسة حكيمة، ورؤية حضارية تجعل من المجال الطبيعي مادة خاما لصياغة مشروعها الحضاري. ولعل أبرز ما يظهره تأمل مسارات الدول والحضارات هو أن الجغرافيا، رغم ثباتها النسبي، تمنح الشعوب فرصا متفاوتة، استثمارها يظل رهينا بالقرار البشري.
حين نتأمل تاريخ المغرب من زاوية جغرافية، يبرز تناقض لا يمكن تجاهله، بلد يتمدد على أكثر من 3512 كلم من السواحل الممتدة بين المتوسط والأطلسي، ومع ذلك ظل في فترات طويلة منكفئا على عواصمه الداخلية، مترددا أمام البحر، كأنه يتعامل معه باعتباره خط تماس خطير أكثر من كونه فضاء حياة وفرص. هذه المفارقة ليست مجرد تفصيل تاريخي، بل هي بنية عميقة أثرت في نشوء الدولة المغربية وتطورها، وفي تشكل وعيها الجمعي بالمجال.
في الذاكرة الشفوية للمغاربة، كما في المدونات التاريخية والرسائل الجامعية، إشارات وافرة إلى فترات المجاعة المتكررة التي عصفت بالبلاد عبر العصور. ورغم أن هذه الأزمات تنسب اليوم في الغالب إلى التغيرات المناخية والجفاف، فإن النظرة المتأنية تكشف أن جزءا كبيرا من هذه المجاعات كان نتيجة خيارات بشرية، وسوء تدبير للمجال الجغرافي أكثر منه حتمية مناخية.
فالمغرب، الغني بواجهته البحرية الأطلسية، يزخر بثروات بحرية لا تحصى، كثير منها لا يحتاج سوى الجمع اليدوي، كالطحالب والمحار، ومع ذلك لم تستثمر هذه الموارد بالشكل الكافي، حتى في أشد فترات القحط ومات المغاربة جوعا. ويعزى ذلك حسب بعض المهتمين، إلى غياب وسائل التبريد والنقل، غير أن هذا الطرح يتغافل عن تقنيات التجفيف التي كانت معروفة ومستخدمة لدى شعوب أخرى ذات ظروف طبيعية أصعب وحظ جغرافي أقل.
وبالمثل، ظل تدبير الموارد المائية ضعيفا، رغم وجود شبكة من الأودية دائمة الجريان (سبو، أم الربيع، تانسيفت، سوس…) كان يمكن تسخيرها لتطوير أنظمة ري مستدامة وسقي الأراضي الزراعية الخصبة في دكالة والشاوية وسوس وغيرها، وتحقيق أمن غذائي فعلي دون الاعتماد الكلي على الأمطار.
المعضلة إذن لم تكن في ضعف الموارد الطبيعية بل في غياب رؤية استراتيجية لاستثمار المجال. لقد امتلك المغاربة دوما مجالا جغرافيا واعدا، لكنهم لم يفلحوا في توظيفه توظيفا حضاريا واقتصاديا يعكس قدراته الحقيقية.
على المستوى الجيوستراتيجي كجغرافي، لا يسعني كلما هممت برسم خريطة المغرب، واقتربت من سواحله الجنوبية، إلا أن أشعر بحسرة عميقة وأنا أمعن النظر في جزر الخالدات، وأتساءل: لماذا لم نكن نحن أول من اكتشفها؟ لماذا لم تصبح جزءا من أرضنا، كما هو الحال اليوم مع الإسبان؟ والحسرة تزداد مرارة كلما صعدت شمالا نحو سبتة ومليلية والجزر الجعفرية، وهي بقايا حية لتاريخ من التفريط في المجال البحري.
تعود هذه التساؤلات لتثير في الذهن مفارقة محيرة: لماذا لم يطور المغرب أسطولا بحريا قويا يركب به البحر، على غرار جيرانه الأوروبيين؟ خاصة بعد معركة وادي المخازن (1578) التي مثلت لحظة نادرة من التوازن العسكري، وكان من الممكن أن تكون منطلقا لاستعادة المبادرة، وربما لو ركبنا البحر في تلك الفترة لكنا من أوائل مكتشفي الامريكيتين وربما كانت البرازيل اليوم دولة مسلمة تتحدث العربية، ولم نخضع بالتأكيد للاحتلال الفرنسي الغاشم.
لكن التاريخ لم يأخذ هذا المسار فقد كانت العوامل الداخلية، من غياب رؤية استراتيجية بحرية، وضعف الاهتمام بالمجال البحري، هي المحدد الأساسي لهذا التراجع، بينما كان التأثير الخارجي رغم مبالغة بعض المؤرخين أقل حسما مما نحب أن نعتقد لقد أُتيحت لنا الفرص، وكانت الجغرافيا في صفنا، لكن القرار السياسي والحضاري لم يكن كذلك، وجعلنا ندير ظهرنا لمصدر كان من الممكن أن يكون طريقنا نحو المجد.
في نفس السياق ظلت العواصم التاريخية للمغرب فاس، مراكش ومكناس متمركزة في العمق، ولم تنشأ أي عاصمة ساحلية رغم امتداد السواحل المغربية الشاسعة وعلى الرغم من الدور الهام الذي لعبته مدن ساحلية مثل سلا، وأسفي والرباط، وأصيلة، والصويرة كقواعد بحرية أو مراكز تجارية في فترات معينة، فإن مركز الثقل السياسي والعسكري ظل، في الغالب الأعم، راسخا في الداخل.
هذا الاختيار لم يكن عشوائيا؛ فالدول المتعاقبة فضلت اعتبارات الأمن، فاختارت مواقع محاطة بالجبال والأودية تتيح مراقبة التحركات العسكرية للخصوم، وتمنح هامشا من الأمان، خاصة في الفترات التي يصعب فيها التنقل كفصل الشتاء.
لكن هذا المنطق الأمني، وإن كان مفهوما في سياقه، أغفل مكامن قوة استراتيجية ضخمة يوفرها البحر، فقد تجاهلت هذه الدول إمكانية بناء قوة بحرية تعزز أمنها وتفتح لها آفاق التوسع والتجارة والاكتشاف وتجنبها الصراعات الداخلية. بل إن التاريخ يبرهن أن هذه العواصم “المحصنة” لم تكن في مأمن مطلق؛ فقد سقطت مراكش بيد الموحدين القادمين من الأطلس الكبير الذي يفترض أنه درع للمدينة، والمرينيين لم يعلمو أن من سيسقطهم يوجد في قصورهم.
الدرس هنا أن القوة لا تبنى بالانكماش والاحتماء، بل بالانفتاح على الموارد والمجالات، وفي مقدمتها البحر.
على صعيد أخر وأنا أقرأ كتاب الرحالة البلجيكي جيل لوكليرك “من موكادور إلى بسكرة”، لفت انتباهي ذكره لوجود سفن إنجليزية كانت تربط، خلال القرن التاسع عشر، بين الصويرة وآسفي وطنجة، حيث شكل النقل البحري حينها وسيلة آمنة وفعالة للتنقل وتفادي خطر قطاع الطرق في المسارات البرية.
ما يثير الأسف أن هذا الشكل من الربط البحري، الذي كان قائما في زمن أقل تطورا من حيث الوسائل والتقنيات، لا يزال غائبا في مغرب اليوم، فرغم الإمكانيات الهائلة التي يوفرها المحيط الأطلسي، ورغم الحاجة الملحة إلى تنويع المنتوج السياحي وتقديم تجارب فريدة في عرض البحر، لا توجد اليوم أي شبكة للنقل البحري السياحي بين المدن الساحلية المغربية.
هذا الغياب يعكس، من جهة، فشلا في الاستثمار الجغرافي، ومن جهة أخرى، استمرار ما يشبه النفور من البحر، كأننا لا زلنا نعيش في دولة غير بحرية، أو نفكر بعقلية دولة حبيسة، رغم أننا نملك من السواحل ما يغري بتجارب بحرية رائدة، سياحية واقتصادية على السواء.
على الصعيد الثقافي ورغم أن المغرب يمتلك واجهتين بحريتين شاسعتين ويضم مدنا ساحلية تزداد ساكنتها عاما بعد عام، إلا أن العلاقة بالبحر تبدو سطحية ومحدودة؛ فالغالبية لا تميّز بين أنواع الأسماك، وأسماء السمك المتداولة بالدارجة قليلة مقارنة بالتنوع البحري الغني، كما أن مهارات السباحة نادرة، والرياضات البحرية تكاد تكون مقصورة على الأجانب، لا تندرج في الثقافة العامة ولا تجد طريقها إلى المدرسة أو الإعلام.
كما أن التراث الشفوي المغربي نادرا ما يحضر فيه البحر، لا في الحكايات ولا في الأمثال، وكذلك في الأدب والكتابات الثقافيةـ إضافة إلى أن أدوات وتقنيات الصيد الحديثة ليست في متناول أغلب الصيادين الصغار وجلها مستوردة.
كل ذلك يدفع إلى التساؤل: هل نحن فعلا سكان دولة بحرية؟ أم أننا لم نحقق بعد المصالحة الضرورية مع البحر، لا في السياسات، ولا في الاقتصاد، ولا في الخيال الثقافي؟ يبدو أن المطلوب اليوم ليس فقط الاستثمار في البحر، بل إعادة بناء علاقة كاملة معه تربوية وثقافية واستراتيجية.
حتى على المستوى العسكري، لا تزال الترسانة البحرية المغربية دون المأمول، سواء من حيث التنوع أو القدرات؛ فباستثناء بعض الفرقاطات الحديثة وعدد محدود من الزوارق الحربية، يفتقر المغرب إلى أسلحة بحرية استراتيجية مثل الغواصات، والطيران البحري المتخصص، والسفن متعددة المهام، وسفن الإنزال البحري، وحاملات المروحيات، وهي تجهيزات أساسية لدولة تمتد سواحلها لأزيد من 3512 كلم.
غياب هذه القدرات لا يؤثر فقط على أمن السواحل، بل يحد من قدرة المغرب على تأمين السيادة الكاملة على مجاله البحري، وعلى المشاركة الفاعلة في استكشاف واستغلال الموارد البحرية، سواء كانت طبيعية أو طاقية، ففي زمن تحولت فيه البحار إلى فضاءات للتنافس الجيواستراتيجي، فإن تعزيز القوة البحرية ضرورة وطنية.
هذه مجرد أمثلة عن بعض المفارقات الغريبة في علاقة المغرب ببحره، وعن الفرص الضائعة عبر التاريخ وحتى يومنا هذا. ويمكن بسهولة إضافة أمثلة أخرى بنفس السياق من الاقتصاد والبحث العلمي والمجال التربوي…، كلها تقود إلى نفس التساؤل: لماذا أُهدرت هذه الفرص؟ لماذا مات المغاربة جوعا والمحيط من حولهم مليء بالخير؟ لماذا لم نشارك في الاكتشافات الجغرافية؟ ولماذا ظلت عواصمنا التاريخية داخلية بعيدا عن البحر؟ أسئلة كثيرة ظلت تراودني، وحاولت أن أجد لها تفسيرا، لكن بصراحة لم أقتنع بما وجدته، لا في بعض المؤلفات والمقالات المتوفرة على الإنترنت وهي نادرة ولا في الفيديوهات التي تستضيف مؤرخين يفترض أنهم مختصون في التاريخ البحري، بل منهم من يذهب إلى القول إن علاقة المغاربة بالبحر كانت وطيدة! لا أدعي أنني أجريت بحثا أكاديميا معمقا، لكنني صادفت بعض التفسيرات المتداولة، وسأعرضها لاحقا مع محاولة نقدها، لأنها في نظري مجرد تبريرات أكثر مما هي تفسيرات.
يرى بعض الباحثين أن نفور المغاربة من البحر يعود إلى ارتباطه في المخيال التاريخي بالتهديد والغزو الخطر… ما جعله مصدر قلق لا فرصة لكن هذا التفسير يبقى قاصرا، لأن الخوف من البحر لم يكن حكرا على المغاربة، بل هو سلوك إنساني شامل؛ فالفينيقيون والإغريق خافوا البحر واتخذوا له آلهة مثل “بوسيدون”، واليابانيون نسجوا حوله أساطير عن الأرواح الشريرة، وحتى الإبحار ليلا كان محرما عند كثير من الشعوب، بل إن الإنسان خشي جميع قوى الطبيعة، من البرق والرعد إلى البراكين، وحولها إلى رموز وأساطير وطقوس وأوثان.
ومع ذلك، لم تمنع هذه المخاوف الشعوب من تحويل البحر إلى أفق اكتشاف وتوسع: فالفينيقيون جعلوا من المتوسط فضاء تجاريا، واليونان استغلوه غذائيا، والبرتغاليون والإسبان وصلوا إلى العالم الجديد عبره، والعثمانيون والإنجليز أسسوا أساطيل بحرية لخدمة مصالحهم السياسية والاقتصادية؛ وهنا يظهر أن العامل الحاسم ليس وجود الخوف، بل قدرة المجتمعات على تجاوزه وتحويله إلى قوة دافعة للتطور والسيطرة.
ويرى بعض المهتمين أن عزوف المغاربة عن البحر يعود إلى صعوبة الإبحار في المحيط الأطلسي بسبب علو أمواجه، وضعف إمكانات بناء سفن قادرة على مجابهته. لكن هذا التفسير يتجاهل حقائق جغرافية وتاريخية مهمة، أولها أن للمغرب واجهة بحرية طويلة على البحر الأبيض المتوسط، بمياهه الهادئة نسبيا، والتي لم تستثمر بشكل فعال في التجارة أو الدفاع أو الاستقرار. كما يغفل هذا الرأي أن الأساطيل البرتغالية والهولندية، منذ القرن 15، عبرت ثلاث محيطات وهي الأطلسي والهندي والهادي وبلغت سواحل الهند وجنوب شرق آسيا، وأسست مستعمرات ومراكز تجارية هناك رغم أنها انطلقت من سواحل ضيقة ودول محدودة الإمكانات.
كما يرجع البعض ممن تستهويهم المركزية الأوروبية قوة أوروبا البحرية إلى الطفرات التقنية التي عرفتها، لكنهم يتغافلون عن تجارب غير أوروبية ناجحة، مثل العمانيين الذين طوروا صناعة السفن محليا، وأنشأوا إمبراطورية بحرية امتدت من شرق إفريقيا حيث سيطروا على مومباسا وزنجبار… إلى سواحل الهند وسواحل الصين…
وقد يعزى الأمر لدى آخرين إلى ضعف الكثافة السكانية بالمغرب تاريخيا، إلا أن هذا المبرر سرعان ما ينهار أمام تجارب شعوب صغيرة نسبيا، كالهولنديين والبرتغاليين، الذين بسطوا نفوذهم على أراض أضعاف حجم بلدانهم، بفعل حيوية المشروع البحري وقوة الإرادة السياسية.
إن التفسيرات التقنية أو الجغرافية قد تضيء جوانب من الظاهرة، لكنها تبقى قاصرة عن تقديم إجابة شاملة فما نفتقده في الحالة المغربية هو مشروع بحري متكامل، ينظر إلى البحر كرافعة استراتيجية، لا كمصدر تهديد أو هامش جغرافي.
فرغم توفر المغرب على عوامل طبيعية وجغرافية مواتية لبناء قوة بحرية رائدة، فإن هذه الإمكانيات بقيت إلى حد كبير غير مستثمرة فصناعة السفن، على سبيل المثال، كانت لتكون سهلة التوطين بالنظر إلى القرب الجغرافي بين السواحل المغربية والغابات الكثيفة الساحلية، وما توفره من أخشاب مناسبة، فضلا عن الأودية الكبرى مثل ملوية وسبو وأم الربيع وسوس وتانسيفت، التي كان من الممكن أن تشكل قنوات طبيعية لنقل الخشب نحو السواحل.
أما من حيث البنية التحتية الطبيعية، فقد حبا الله المغرب بسواحل طويلة ومرافئ طبيعية متعددة، من السعيدية إلى الكويرة، مرورا بالمهدية، والواليدية، وامسوان، وسيدي إفني، وغيرها، ما يجعل من بناء موانئ أو أرصفة بحرية أمرًا ميسرًا تقنيا.
من الناحية التكنولوجية، كان بالإمكان توطين المعرفة البحرية بسهولة عبر تفعيل العمل الاستخباراتي، سواء عبر التجسس التجاري والعسكري، أو من خلال استقطاب العارفين بصناعة السفن، خاصة في فترات حساسة مثل ما بعد طرد الموريسكيين من الأندلس، أو خلال نشاط قراصنة سلا الذين كانت لهم علاقات مع شبكات بحرية متعددة، اليد العاملة بدورها لم تكن عائقا، إذ كان المغرب قادرا على توفير قوى بشرية ماهرة عند الحاجة.
ما كان ينقص، في نهاية المطاف، هو وجود قرار سياسي واع يجعل من البحر فضاء استراتيجيا للتوسع والنفوذ، لا مجرد هامش جغرافي يطل على عالم غريب ومخيف.
قد يستشهد البعض بتجربة “قراصنة سلا” كمؤشر على علاقة تاريخية بين المغاربة والبحر، إلا أن هذا المثال، عند التمحيص، لا يعدو أن يكون لحظة استثنائية وخارجة عن القانون، لم تؤطر ضمن رؤية استراتيجية أو مشروع حضاري، بل أشبه ما تكون بـ”قندهار بحرية” في زمنها، حيث تلاقت فيها مصالح قراصنة أوروبيين ومورسكيين في فضاء هامشي ومؤقت. وهذه التجربة دليل قاطع أن ما كان ينقص المغاربة هو الرؤية الحضارية والإرادة فقط لا شيء أخر.
وقد يحاجج آخرون بسياسة الانفتاح التي انتهجها السلطان المولى عبد الله، خاصة بعد تراجع طرق التجارة الصحراوية، حيث عمل على تأسيس موانئ جديدة مثل ميناء الصويرة والعرائش…، محاولا إدماج المغرب في منطق التجارة الأطلسية، مستفيدا من التحولات التي شهدها الاقتصاد العالمي آنذاك، خصوصا تجارة الرقيق والسلع المرتبطة بالمثلث الأطلسي لكن هذه التجربة المتميزة، على محدوديتها الزمنية، لم تكتمل ولم يكتب لها الاستمرار، إذ سرعان ما تلاشت تحت حكم المولى سليمان، الذي أعاد البلاد إلى نمط من الانغلاق، مؤسسا لعودة النفور من البحر وإعادة تمركز الدولة في الداخل.
وما عدا ذلك، فإن العلاقة بالبحر ظلت في المخيال والممارسة المغربية علاقة عبور اضطراري، لا علاقة استثمار أو توسع، عبور من البحر الأبيض المتوسط إلى الأندلس والعكس، كمن يعبر نهرا لا فضاء استراتيجيا أو اقتصاديا.
إن إهمال المجال البحري في المغرب لم يكن خطأً تاريخيا عابرا، بل لا يزال ممتدا إلى اليوم، حيث تهدر فرص ثمينة كان من الممكن أن تسهم في تحقيق الأمن الغذائي، وتوفير مناصب الشغل، واكتشاف الثروات الطبيعية والطاقية، وتعزيز الحضور الجيوسياسي في الفضاء الأطلسي. إن استمرار هذا التجاهل يعني خسارة مضاعفة: اقتصادية واستراتيجية.
لذلك، أصبح من الضروري أن يعيد المغرب النظر في علاقته بالبحر، عبر بلورة رؤية حضارية تجعل من المحيط جزءا من الهوية الوطنية ومن التراث الذي نصنعه للأجيال القادمة، فالبحر ليس مجرد مجال جغرافي، بل هو مورد حيوي ورافعة مستقبلية. ويتطلب هذا التحول توظيف العلاقات الدبلوماسية لاكتساب كل التجارب البحرية الممكنة، واقتناء التكنولوجيا البحرية مهما كانت كلفتها، وتوطينها محليا، والاستثمار في البحث العلمي البحري وتكوين الكفاءات الشابة في كل مهن البحر، مع تأهيل السواحل، وتنشيط الاقتصاد البحري، وتشجيع الرياضات والثقافة البحرية إنه استثمار استراتيجي، آن أوانه، ولا مجال لتأجيله.
في الأخير، لا بد أن أقر بأنني واجهت صعوبة حقيقية في وضع تصميم محكم لهذا الموضوع، نظرا لغزارة الأفكار التي تتزاحم في ذهني وتشابكها المستمر. وربما في بعض المواضع، قد أكون بالغت في الأحكام أو سقطت في فخ جلد الذات، أو أغفلت محطات مضيئة من تاريخنا البحري، إما لعدم اطلاعي الكافي، أو لندرة المصادر المتاحة.
لكن ما حاولت التعبير عنه هنا ليس سوى صرخة، أو لنقل رسالة شخصية، أشعر وكأن المحيط الأطلسي الذي أراه كل يوم يلح علي لأوصلها إلى باقي المغاربة. رسالة مفادها أن الوقت قد حان لنغير سياستنا ونظرتنا لهذا الامتداد الأزرق العظيم، لنراه بعيون جديدة، ككنز لا يقدر بثمن، وكفضاء استراتيجي يجب أن يصبح جزءا من هويتنا ورافعة من رافعات مستقبلنا.
الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة



