تأكيدا لما سبق أن انفردت به “الصحيفة” في وقت سابق حول الارتباك الذي تعيشه الزاوية البودشيشية منذ وفاة الشيخ جمال الدين القادري بودشيش يوم 8 غشت المنصرم، وانعكاسه على الاحتفالات السنوية بالمولد النبوي، أعلنت الزاوية القادرية البودشيشية، رسميا قرارا غير مسبوق يقضي بالتخلي عن تنظيم الاحتفالات المركزية بالمولد النبوي الشريف في مقرها الأم بمداغ، والاكتفاء هذه السنة بإحياء الذكرى جهويا في مختلف الفروع المنتشرة عبر ربوع المملكة.
ويأتي هذا القرار بعد أيام قليلة من إلغاء الدورة العشرين للملتقى العالمي للتصوف بمدينة بركان، التي كان يشرف على تنظيمها منير القادري، وهو ما يعزز المؤشرات على عمق الأزمة الداخلية التي تمر منها الطريقة بعد رحيل شيخها.
البلاغ، الذي صدر في صيغة دينية مؤثرة، أرجع القرار إلى الظرف الجلل الذي ألمّ بالزاوية إثر فقدان شيخها، حيث جاء فيه: “بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، ستُقام الاحتفالات الروحية بهذه الذكرى جهوياً في مختلف الزوايا العامرة في ربوع المملكة المغربية الشريفة، عوضاً عن الزاوية الأم بمداغ”. وأضاف البلاغ أن هذا التوجه يأتي في “سياق الحزن الذي تعيشه الطريقة بعد انتقال الشيخ جمال الدين إلى جوار ربه”.
ودعت الزاوية جميع المريدين والمريدات إلى التشمير عن ساعد الجد في الذكر والتلاوة، وإعمار الزوايا الجهوية بقراءة القرآن الكريم وصحيح الإمام البخاري، وكتاب الشفا للقاضي عياض، ودلائل الخيرات، وذخيرة المحتاج في الصلاة على صاحب اللواء والتاج، على أن تُختتم هذه الأنشطة ليلة المولد النبوي الشريف، في احتفاء جماعي بسيد الخلق.
غير أن المراقبين يرون أن الصياغة الروحانية للبلاغ لا تحجب حقيقة الوضع الداخلي الذي تعرفه الزاوية منذ وفاة الشيخ جمال الدين، فالمناسبة المركزية لمداغ لم تكن مجرد طقس ديني، بل شكّلت على مدى عقود قلب الزاوية النابض ورمز وحدتها التنظيمية والروحية، كما مثّلت واجهة للصوفية المغربية في علاقتها بالمؤسسة الرسمية، والتخلي عنها هذه السنة، مباشرة بعد إلغاء ملتقى التصوف العالمي الذي سحبت منه الرعاية الملكية هاته السنة بسبب صراع البيت الداخلي، يُقرأ كإشارة إضافية على حالة من الارتباك العميق، حيث لم تنجح القيادة الجديدة بعد في فرض توافق داخلي أو استعادة زخم الأنشطة الكبرى.
ومنذ رحيل الشيخ جمال الدين، فقدت الزاوية شخصية جامعة كانت تحظى بإجماع كبير وتضمن توازنات دقيقة بين الفروع والتيارات المختلفة داخل البيت البودشيشي ومع انتقال القيادة إلى الجيل الجديد في شخص الابن الأكبر الذي لا يحظى باجماع رغم الوصية، ظهرت حساسيات داخلية عبر عنها بعض المريدين بوصفها حالة “الدري الصغير” الذي لم يكتسب بعد الشرعية الكاملة، خاصة مع ما يُقال عن دعم وزير الأوقاف أحمد التوفيق للابن الاصغر، وهو نفسه أحد أبناء الزاوية، وهذا الوضع غذّى الشكوك والانقسامات، وجعل تنظيم التظاهرات الكبرى عرضة للتعطيل والإلغاء.
ولعل الملتقى العالمي للتصوف ببركان، الذي تحوّل منذ تأسيسه إلى منصة دولية للتعريف بالتصوف المغربي كواجهة للقوة الناعمة الروحية للمملكة، كان أول ضحية لهذه الأزمة، بعدما أُعلن عن تأجيل دورته العشرين التي كانت مبرمجة ما بين فاتح وسادس شتنبر، ومع قرار التخلي عن إحياء المولد مركزيا بمداغ، تزداد المؤشرات على أن الزاوية لم تستعد بعد توازنها الداخلي ولا قدرتها على لعب الدور الذي طالما اضطلعت به في المشهد الديني والدبلوماسي المغربي.
والمولد البودشيشي لم يكن يوما مجرد مناسبة احتفالية، بل شكّل لحظة روحية جامعة تستقطب آلاف المريدين من المغرب والخارج، وكان يُقدّم صورة عن تماسك الطريقة وقوة إشعاعها، وبالتالي فإن غيابه هذه السنة عن مداغ يُعد حدثا استثنائيا في تاريخ الزاوية، لم يحدث إلا في ظروف طارئة كجائحة كورونا حين اقتصر الاحتفال على الصيغة الافتراضية أما اليوم، فالقرار يأتي من داخل البيت نفسه، ويعكس بوضوح صعوبة المرحلة الانتقالية التي تعيشها الطريقة.
وبينما يحرص البلاغ على التأكيد أن الذكر سيُقام جهويا في كافة الزوايا عبر المملكة، فإن هذه اللامركزية الاضطرارية لا تخفي الأسئلة الحقيقية حول مستقبل الزاوية وموقعها داخل المشهد الديني المغربي، فالبودشيشيون كانوا لسنوات واجهة للدبلوماسية الروحية للمغرب في إفريقيا وأوروبا، ومشاركاتهم في ملتقى مداغ كانت تجذب شخصيات علمية وروحية من مختلف القارات، مما منح المغرب موقعاً متميزا في الترويج لنموذجه الديني المبني على الوسطية والاعتدال ومع غياب الملتقى والمولد المركزيين هذه السنة، يبرز تحدٍّ كبير يتعلق بقدرة الزاوية على الحفاظ على هذا الدور.
وعلى العموم، فإن ما يجري داخل الزاوية القادرية البودشيشية ليس مجرد ظرف عابر من الحزن بعد فقدان الشيخ جمال الدين، بل هو لحظة اختبار حقيقية لمتانة بنيتها الداخلية ولمدى قدرتها على تجاوز صراع الأجيال والحساسيات القيادية فإما أن تنجح في إعادة إنتاج وحدتها وصورتها الجامعة، أو تستمر حالة الارتباك التي قد تخصم من رصيدها التاريخي وتضعف حضورها في معادلة التصوف المغربي والدبلوماسية الروحية للمملكة.



