قدّم وسيط المملكة، حسن طارق، قراءة معمقة للتحولات التي تعرفها العلاقة بين السياسات العمومية والاحتجاج والوساطة، مؤكداً أن الوساطة لم تعد مجرد آلية تقنية لتدبير علاقة المرتفق بالإدارة، بل أصبحت جزءاً أساسياً من معادلة اجتماعية جديدة ترتبط بفعل الدولة وبرامجها وتفاعلات المواطنين مع السياسات العمومية.
واستعاد طارق، في مستهل كلمته سؤالاً كان محور مادة درّسها قبل عشر سنوات حول الوساطة والتمثيل، يتعلق بكيفية التوفيق بين منطق الديمقراطية الدستورية ومنطق الديمقراطية الاحتجاجية في الدول الحديثة، معتبرا أن هذا السؤال عاد ليشكل مدخلاً أساسياً في قراءته للتحولات الراهنة، خاصة خلال اشتغاله على التقرير السنوي لمؤسسة الوسيط لسنة 2024، إذ لاحظ انتقال التظلمات من الانشغالات الإدارية الكلاسيكية إلى قضايا تمس بنية السياسات العمومية ذاتها.
وسجّل وسيط المملكة أن التظلمات المتعلقة ببرنامج “فرصة” شكّلت مثالاً بارزاً لهذا التحول؛ إذ تلقت المؤسسة أزيد من 590 ملفاً فردياً لمواطنين لا يحتجون على تعقيدات إجرائية فقط، بل على تصور البرنامج ذاته وشروطه وأثره، مبرزا أن هذا المعطى يعكس، أن التظلم لم يعد موجهاً نحو مرفق إداري بقدر ما صار موجهاً نحو سياسة عمومية.
واعتبر، خلال مداخلته في درس افتتاحي لطلبة القانون بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بالرباط، أن ملف طلبة كليات الطب والصيدلة يمثّل بدوره نموذجاً آخر لانتقال الوساطة إلى مواجهة فعل احتجاجي جماعي منظم، بعد وصول التوتر إلى حد التهديد بسنة بيضاء قبل أن تتدخل الوساطة لإيجاد مخرج.
وأشار وسيط المملكة إلى أن ما يبرز من خلال تحليل تظلمات سنة 2024 هو أن الاختلالات لم تعد مرتبطة فقط بسوء تدبير إداري في حدوده التقليدية، بل صارت مرتبطة بهندسة السياسات العمومية نفسها، وبمدى قدرتها على الاستجابة للطلب الاجتماعي المتصاعد.
وبيّن أن هذه الاختلالات تظهر في مراحل متعددة، بدءاً من التصور الأولي للسياسة، مروراً بصعوبات الولوج إلى خدماتها، ووصولاً إلى الفجوات التي تبرز على مستوى أثرها الاجتماعي المنتظر، إلى جانب عدم تطابق بعض البرامج مع الفئات التي تستهدفها في الأصل. وهو ما يعكس، حسب تعبيره، جيلاً جديداً من الاختلالات يعبّر عن اتساع الطلب الاجتماعي وتعقّد الدور الاجتماعي للدولة.
وأكد طارق أن العلاقة بين المواطن والإدارة لم تعد تقتصر على لحظة بسيطة بين مرتفق وموظف، بل أصبحت محاطة بسياق اجتماعي واسع يحمل انتظارات أكبر من قدرات المرافق العمومية وقدرات الدولة المالية، مسجلا في نفس الوقت أن المواطن لم يعد يميز كثيراً بين الإدارة والدولة، ما يجعل الإدارة واجهة يومية لهفوات السياسات ومحدودية الموارد، في مقابل ارتفاع سقف المطالب المرتبط بالكرامة والعدالة الاجتماعية واستفادة الجميع من الحقوق الدستورية.
واعتبر أن الاحتجاج في المغرب أصبح ظاهرة بنيوية ستستمر، بالنظر إلى تقاطع عوامل متعددة، أبرزها انفجار الطلب الاجتماعي، ووجود هامش من حرية التعبير، وتحوّل الفضاء العمومي بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب تطور أشكال التعبئة والاحتجاج، التي لم تعد مقتصرة على الفاعلين السياسيين والنقابيين التقليديين، بل باتت يقودها مواطنون عاديون يحركهم وعي جديد بفعلية الحقوق الدستورية وبالفجوة بين الواقع وما يجب أن يكون.
ولفت وسيط المملكة إلى أن “الريبيرتوار الاحتجاجي” عرف توسعاً نوعياً يشمل الوقفات والمسيرات والاعتصامات والإضرابات عن الطعام وحتى أشكال احتجاج رمزية تعكس ثقافة شبابية جديدة.
وأوضح طارق أن الاختلالات الإدارية يمكن أن تتطور بسرعة إلى توترات مرفقية، وهذه الأخيرة يمكن أن تتحول بدورها إلى توترات اجتماعية واحتجاجية، كما وقع في ملف طلبة الطب، إذ أصبح النقاش حول الحقوق الدستورية في الصحة والتعليم نقاشاً حول فعلية هذه الحقوق وقدرة المواطن على الولوج إليها واقعياً، وليس فقط امتلاكها نظرياً، مذكرا أن دستور 2011 عاش “حياة ثانية” خلال هذه الاحتجاجات، بعدما أصبح الشباب يستندون إلى مقتضياته للمطالبة بالحقوق الاجتماعية.
ومن جهة أخرى، قدّم وسيط المملكة قراءة مزدوجة لتأثير الاحتجاجات على دورة السياسات العمومية، موضحا أنه بينما يمكن لها أن تعزز المشاركة والمساءلة الاجتماعية وتدفع نحو دمقرطة القرار العمومي، فإنها قد تؤدي أيضاً إلى سياسات استعجالية تحت ضغط الزمن، أو إلى انزلاق نحو سياسات فئوية تستجيب للفئات الأكثر قدرة على الاحتجاج بدل الفئات الأكثر هشاشة واحتياجاً، كما قد تُرسّخ فكرة أن الديمقراطية الاحتجاجية أكثر نجاعة من الديمقراطية الدستورية.
وفي ختام كلمته، اعتبر حسن طارق أن الوساطة المؤسساتية، بصيغتها الحالية، لا تستطيع مواكبة كل أشكال التوترات الاجتماعية الجديدة، داعياً إلى توسيع امتدادها الترابي، وتفعيل دور اللجان الجهوية لحقوق الإنسان في تدبير الاحتجاج، وتعزيز الثقافة المجتمعية للوساطة داخل الجامعة والمجتمع المدني، وتثمين مبادرات الوساطة الاجتماعية التي أثبتت فعاليتها، مؤكدا أن الرهان الأساس اليوم هو خلق توازن بين الوساطة المؤسساتية والوساطة المجتمعية لضمان قدرة المجتمع على تدبير التوترات الاجتماعية في ظل تعقّد السياسات العمومية وتزايد الضغط على الدولة.



