تفكيك مغالطات لوموند حول المؤسسة الملكية – الصحيفة

admin5 سبتمبر 2025آخر تحديث :
تفكيك مغالطات لوموند حول المؤسسة الملكية – الصحيفة


ليست هذه المرة الأولى التي تنزلق فيها بعض الصحف الغربية، وفي مقدمتها لوموند، إلى أسلوب الإثارة بدل التحليل، وإلى توظيف مشاهد عابرة لتشييد سرديات سياسية كبرى لا تقوم على معطيات راسخة. فمن حيث المبدأ، شأن صحة جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ليس موضوعا للتكهنات الصحفية، بل هو أمر يعلنه الديوان الملكي في صيغته الرسمية، بما يضمن للمواطن المغربي الحق في معرفة دقيقة ومسؤولة، ويصون في الوقت نفسه حرمة الحياة الخاصة للمؤسسة الملكية. ولقد أظهر المغاربة بوعيهم السياسي أنهم لا يلتفتون إلى مثل هذه المبالغات الإعلامية، إدراكا منهم أن الإعلام الغربي قد يخلط بين الرغبة في التأثير وبين واجب نقل الحقيقة. إن ما تسعى إليه لوموند، إذن، ليس إخبار القارئ بما يجري، بل صياغة صورة مغلوطة تعكس ارتباكا في رؤيتها للمغرب أكثر مما تعكس واقعا موضوعيا. ومن هنا فإن الرد لا يكون بالانفعال، بل بتفكيك هذا التبسيط المخل، والتذكير بأن استقرار الحكم يقاس بمتانة مؤسساته وصلابة شرعيته، لا بتأويلات تبنى على لقطات عابرة. 

أولا، خلل منهجي في مقاربة لوموند:

منذ عقود طويلة والعلاقة بين الصحافة الفرنسية والمغرب تتأرجح بين التقدير والحذر؛ تقدير لقدرة المغرب على تثبيت الاستقرار السياسي في محيط مضطرب، وحذر من استقلالية قراره السيادي عن الهيمنة التقليدية التي كانت باريس تنظر إليها امتدادا طبيعيا لنفوذها. ومن هذا التوتر المزمن نشأ خطاب مثل الذي تبنته لوموند، إذ اعتمدت الصحيفة على صور متفرقة لتوحي بضعف الاستمرارية، لكنها لم تقدم أي معطيات دقيقة أو تقارير موثوقة، بل اكتفت بتوظيف مشاهد متناقضة لتشييد فرضية”الانتقال” أو “النهاية”. وهنا يظهر الخلل المنهجي: فالشرعية السياسية لا تختزل في مظهر عابر، وإنما تبنى على مؤسسات راسخة وتوازنات اجتماعية ودستورية عميقة.

ثم إن محاولة ربط الاستقرار السياسي بما تصفه الصحيفة بأبعاد صحية، يعكس تجاهلا لطبيعة الملكية المغربية التي لم تكن يوما مؤسسة فردية محضة، بل ظلت إطارا جامعا يربط بين الدين والسياسة، وبين الدولة والمجتمع، في تقليد تاريخي متجذر. وعليه، فإن أي تحليل موضوعي للوضع السياسي المغربي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار قدرة المؤسسة الملكية على إنتاج الاستقرار، ومرونة النخب في إدارة التحديات، واستمرارية الدولة في مواجهة الضغوط. أما الاقتصار على صور متناقضة، هذا من هنا وذاك من هناك، فهو أقرب إلى الإثارة الإعلامية منه إلى التحليل السياسي الرصين.

وعلى المستوى الدبلوماسي، يمكن النظر إلى مقالات لوموند في سياق أوسع من مجرد اهتمام إعلامي. ففرنسا، المنشغلة بعلاقتها المتوترة مع الجزائر، تجد في المغرب طرفا وازنا يفرض حضوره في المنطقة. لذلك صار بعض الإعلام الفرنسي يوظف ملفات متعددة، من قضية الصحراء إلى الحقوق، وصولا إلى مسألة صحة الملك،  لفتح نقاشات تخدم جدلا داخليا في باريس أكثر مما تعكس الواقع المغربي. إنها لغة سياسية تلبس ثوبا صحفيا، لكن القارئ اليقظ يستطيع إدراك خلفياتها.

إن الرد على هذا النوع من الكتابات لا ينبغي أن ينزلق إلى خطاب عاطفي، وإنما أن يقوم على تفكيك بنيتها الحجاجية. فإذا كان الدليل الوحيد هو التناقض بين صورتين التقطتا في ظرف أسابيع قليلة، فذلك لا يؤسس لحكم سياسي رصين. أما الحديث عن”أجواء نهاية حكم” فليس إلا صياغة درامية تفتقر إلى السند الواقعي. إن أي قراءة تاريخية لواقع  الملكية المغربية  تثبت أن الاستمرارية تتم عبر مؤسسات وقواعد دستورية، لا عبر استنتاجات مبنية على صور. وهكذا تكشف مقاربة لوموند عن محدودية الأدوات التحليلية حين تتناول العالم العربي، إذ تلجأ إلى السرديات الجاهزة بدل الغوص في خصوصيات التجربة المغربية.

ثانيا، صناعة سردية وهمية:

أبرز ما يكشف ضعف مقاربة لوموند هو اعتمادها على صورتين متباينتين لبناء استنتاج سياسي متسرع: الأولى خلال صلاة العيد في تطوان، والثانية بعد أسابيع قليلة و ملكنا، حفظه الله، يمارس نشاطا ترفيهيا. إن الركون إلى هذه الثنائية لاستنتاج فرضيات كبرى حول مستقبل الحكم يعكس قصورا في المنهجية، إذ لا يمكن لمشاهد بروتوكولية أو لقطات عابرة أن تقرأ كدليل على مسار سياسي معقد. فالتحليل الرصين يستند إلى معطيات مؤسساتية واقتصادية واجتماعية، لا إلى انطباعات بصرية قابلة للتأويل المتناقض.

ثم إن الاستشهاد بلقاء الملك مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خريف 2024 لتأكيد فرضية “تراجع” يظل مثالا على القراءة الانتقائية؛ إذ إن أي زعيم في العالم يمكن أن يظهر مرهقا في لحظة ما، وحيويا في لحظة أخرى. تحويل هذه الصور إلى رموز سياسية يخرج التحليل من إطار الموضوعية إلى فضاء التأويل الانطباعي. وإذا كان الهدف طرح سؤال مشروع حول مستقبل الحكم، فإن أدوات البناء التي اعتمدتها الصحيفة لا ترتقي إلى مستوى النقاش الجاد، لأنها تفترض أن السياسة انعكاس مباشر للحالة البدنية، وهو تبسيط مخل يغفل صلابة المؤسسة المغربية ومرونتها.

كما أن استخدام عبارة “أجواء نهاية حكم” لإضفاء طابع درامي على المشهد يفتقد إلى السند الواقعي. بل إن التناقض بين المظهرين قد يقرأ على العكس: كدليل على أن  الملك نصره الله، رغم أي عارض عابر، قادر على استعادة نشاطه والقيام بمهامه وفق ما تقتضيه المسؤولية. ومن ثم فإن القراءة التي تبني استنتاجاتها على صور متناثرة لا تستطيع أن تقدم حكما موضوعيا، بل تكتفي بإنتاج سردية مثيرة للقارئ الغربي أكثر مما تعبر عن الواقع المغربي.

وعليه، فإن ما قدمته لوموند لا يمكن وصفه بتحليل سياسي متوازن، بل هو أقرب إلى بناء درامي يفتقر إلى الأدلة الموثوقة. والمطلوب في الرد هو إظهار هذا الخلل: فالمشهد في تطوان بروتوكولي له سياق محدد، والمشهد في الشمال يعكس حياة طبيعية، واللقاء بباريس يندرج ضمن التزامات دبلوماسية عادية. أما تحويلها جميعا إلى إشارات على”الانتقال” فهو تأويل ذاتي، لا يستند إلى معطيات موضوعية ولا ينسجم مع قراءة مؤسساتية جادة.

ثالثا، الملكية المغربية وصلابة الشرعية في مواجهة التأويلات الإعلامية المغلوطة:

في جوهره، يكشف مقال لوموند عن خلط بين ما هو إعلامي وما هو سياسي، إذ يجعل من موضوع الصحة مدخلا لقراءة المشهد المغربي. غير أن هذه المقاربة تظل محدودة، لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار المؤشرات الحقيقية: دينامية الاقتصاد، موقع المغرب المتنامي في إفريقيا، وتوازناته الدولية. عوض ذلك، اختزلت الصحيفة التحليل في صور متفرقة وعبارات درامية. والحال أن السياسة لا تختزل في المظاهر، بل تقوم على المؤسسات والشرعية التاريخية والاجتماعية والدستورية التي أثبتت قدرتها على ضمان الاستمرارية.

والأعمق من ذلك أن ما غاب عن مقالة لوموند هو إدراك خصوصية الملكية المغربية التي نسجت شرعية مركبة: دينية بوصف الملك أمير المؤمنين، تاريخية باعتبارها امتدادا لسلالة عريقة، وسياسية لكونها ركيزة للاستقرار في محيط إقليمي متقلب. إن اختزال هذه الشرعية في زاوية صحية ضيقة يكشف عن تهافت في التحليل، لأن المؤسسة الملكية في المغرب ليست قائمة على فرد بقدر ما هي محمولة على إرث متجذر في المخيال الجماعي والدستور الحديث للدولة.

وعلى المستوى الدبلوماسي، من الضروري التمييز بين ما يكتب في بعض وسائل الإعلام الفرنسية وبين السياسات الرسمية للدولة الفرنسية. فباريس، المنشغلة بعلاقتها المتوترة مع الجزائر، حريصة على عدم الإضرار بمصالحها الاستراتيجية مع الرباط. لذلك فإن مقالات من هذا النوع قد تعبر عن خيارات تحريرية، لا عن توجه رسمي. ومن هنا فإن الرد المغربي الأجدى هو تأكيد متانة الاستقرار الداخلي، والانفتاح على الشراكات، وإبراز قدرة المملكة على المبادرة إقليميا ودوليا.

إن مواجهة مثل هذه المقالات لا تكون بالانفعال أو نفي التفاصيل، بل بتأكيد الحقائق الكبرى: المغرب اليوم يبني نموذجا تنمويا جديدا، يعزز حضوره الإفريقي، يرسخ وحدته الترابية، وينوع شراكاته الدولية. هذه هي المؤشرات الحقيقية لمستقبل الحكم، لا صور عابرة أو تأويلات مثيرة. ومن ثم فإن محاولة قراءة المغرب عبر عدسة “الصحة” وحدها ليست سوى اختزال مجحف يتجاهل تاريخا طويلا من الاستمرارية، ومؤسسات أثبتت قدرتها على التجدد، وإرادة سياسية جامعة تضع البلاد على سكة المستقبل بثبات.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة



Source link

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة