كشف المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي عن هشاشة استدامة نمو التعليم الأولي بالمغرب، بسبب تعدد مصادر التمويل وتباين أنماط التدبير، وغياب إطار موحد للموازنة، ما يحد من القدرة على التتبع والتخطيط بعيد المدى، ويؤدي إلى تفاوتات جهوية ومؤسساتية.
جاء ذلك في التقرير الوطني حول تقييم التعليم الأولي بالمغرب الصادر عن الهيئة الوطنية لتقييم منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، الذي أوضح أن التوسع الذي عرفه التعليم الأولي واكبه مجهود مالي مهم، إذ ارتفعت الميزانية المخصصة للتعليم الأولي من 1.13 مليار درهم سنة 2019 إلى حوالي 3 مليارات درهم سنة 2025، مع تحول تدريجي من الاستثمار في البنيات التحتية إلى تمويل التسيير، خاصة أجور المربيات والمربين. كما بلغت حصة التعليم الأولي 12.3% من ميزانية وزارة التربية الوطنية.
توسّع كمي غير مسبوق
ورصد التقرير، الذي اطلعت عليه جريدة “مدار21″، التحول التدريجي لمكانة التعليم الأولي في السياسات العمومية، منذ الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 1999، مرورًا بالبرنامج الاستعجالي، ثم الرؤية الاستراتيجية 2015-2030، وصولًا إلى القانون الإطار 51.17 الذي أقر إلزامية التعليم الأولي.
وقد تُوّج هذا المسار، وفق المصدر نفسه، بإطلاق البرنامج الوطني لتعميم وتطوير التعليم الأولي (2018-2028)، الذي مكّن من رفع نسبة التمدرس من 50.2% سنة 2015 إلى 70.4% سنة 2025، مع قفزة لافتة في الوسط القروي حيث انتقلت النسبة من 36.3% إلى 75.6%، متجاوزة لأول مرة الوسط الحضري. كما تعزز مبدأ تكافؤ الفرص بين الجنسين، إذ بلغت نسبة تمدرس الفتيات 71.1% مقابل 69.8% لدى الفتيان.
هذا التوسع الكمي ارتكز أساسًا على تنامي العرض العمومي، الذي ارتفع عدد وحداته من 6185 إلى أكثر من 23 ألف وحدة، في مقابل تراجع التعليم الأولي غير المهيكل بنسبة 74%، وارتفاع عدد المؤسسات إلى أزيد من 32 ألف مؤسسة على الصعيد الوطني.
تحدي الجودة
سجل الأطفال المشاركون، وفق التقرير، معدلًا عامًا قدره 62 نقطة من 100، وهو مستوى يُعد مقبولًا للالتحاق بالتعليم الابتدائي، حيث تجاوز ثلاثة أرباع الأطفال العتبة الدنيا المحددة في 50 نقطة. غير أن الفارق البالغ 38 نقطة بين أعلى وأدنى النتائج يكشف عن تحديات حقيقية في جودة التعلم.
وسُجّل أفضل أداء في مجال النمو الاجتماعي-العاطفي (68 نقطة)، يليه مجال الرياضيات (65 نقطة)، ثم الوظائف التنفيذية (60 نقطة)، بينما جاءت القراءة والكتابة في المرتبة الأخيرة بمعدل 56 نقطة، ما يعكس صعوبات واضحة في الوعي الصوتي والتعرف على الحروف، خاصة باللغة العربية.
ويبرز التقرير تفاوتًا واضحًا بين الوسطين الحضري والقروي، حيث بلغ المعدل 66 نقطة في الحضري مقابل 58 نقطة في القروي. كما أظهرت النتائج تفوق التعليم الأولي الخصوصي (71 نقطة) على العمومي (57 نقطة)، في مؤشر مقلق على ارتباط جودة التعلم بنوع المؤسسة.
وتتعمق هذه الفوارق مع العامل الاجتماعي، إذ يسجل الأطفال المنحدرون من أسر ميسورة أداء أفضل بفارق يصل إلى 12 نقطة مقارنة بأقرانهم من أسر ضعيفة الحال، ويرتفع هذا الفارق إلى 14 نقطة في مجال القراءة والكتابة. كما يتمركز الأطفال المنتمون إلى الأسر الفقيرة في المؤسسات العمومية بنسبة تفوق 60%، مقابل هيمنة أبناء الأسر الميسورة على التعليم الخصوصي بنسبة 72% .
بيئة تعلم غير متكافئة
رغم توفر أغلب المؤسسات على التجهيزات الأساسية، فإن التقرير يسجل خصاصًا في الكتب والألعاب التعليمية، خاصة في الوسط القروي، حيث لا يمتلك أكثر من نصف الأطفال أي كتاب في المنزل. كما أن القراءة للأطفال تبقى ممارسة نادرة، إذ إن 58% منهم لا يستفيدون منها إطلاقًا.
ويربط التقرير بين القراءة المنتظمة وتحسن نتائج الأطفال بما بين 6 و9 نقاط، ما يبرز الدور الحاسم للأسرة في دعم التعلم المبكر. كما يسجل ارتباط اللجوء إلى العقاب البدني، المقبول لدى أكثر من ثلث الآباء، بانخفاض متوسط التحصيل بحوالي خمس نقاط .
ويتسم الطاقم التربوي بغلبة الفئة الشابة وقلة الخبرة، خاصة في التعليم العمومي والوسط القروي، حيث يؤطر 70% من الأطفال مربون لا تتجاوز خبرتهم خمس سنوات. ورغم أن 93% من المربيات والمربين تلقوا تكوينًا أساسيًا، فإن تنوع المسارات المهنية واختلاف العقود والأجور يطرح تحديات حقيقية على مستوى الاستقرار والتحفيز وجودة الممارسة التربوية.
يخلص التقرير إلى أن المغرب حقق تقدمًا لافتًا في تعميم التعليم الأولي، لكنه يواجه اليوم تحدي الانتقال من منطق التوسع الكمي إلى ترسيخ جودة منصفة، قادرة على تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية. ويؤكد أن الاستثمار في تكوين المربيات والمربين، وتحسين بيئات التعلم، ودعم الأسر، وتوحيد حكامة التمويل، تمثل رهانات مركزية لضمان أن يكون التعليم الأولي فعلًا رافعة للعدالة الاجتماعية وبداية متكافئة لجميع أطفال المغرب.



