سيد امحمد أجيون
يشكّل القرار الرسمي القاضي بفسخ جميع عقود الخدمات الشخصية والمؤسسية ابتداءً من يوم 31 من الشهر الجاري محطةً مفصلية، ستُظهر بوضوح حجم الممارسات التي كانت تُدار بعيداً عن مقتضيات الحاجة والمردودية.
فعلى مدى السنوات الماضية، تراكمت العقود داخل المؤسسات حتى أصبحت أشبه بموضة؛ إذ تمددت عقود الخدمات — خصوصًا في مجالات النظافة والصيانة — حتى غدا من المألوف أن يعتمد الطرف الواحد شركتين أو ثلاثًا للغرض نفسه، بينما تراجع أداء الموظفين الرسميين المكلَّفين أصلاً بهذه المهام.
وتجاوز الأمر حدود الخدمات الفنية ليصل إلى توقيع عقود مع مؤسسات صحفية وأشخاص من العاملين في الإعلام والتدوين، مما ساهم في تكريس ممارسات قائمة على المجاملة أو الابتزاز.
وقد استُخدمت هذه العقود لإسكات نقد مشروع أو تمرير رسائل محددة، مقابل نشر محدود لا يرقى إلى الحد الأدنى من المهنية.
لقد أثبت الواقع أن هذه العقود — سواء كانت شخصية أو مؤسسية — استنزفت مبالغ طائلة من المال العام دون مردودية حقيقية، بل أسهمت في إضعاف صورة القطاعات الحكومية بدل تحسينها.
وإذا افترضنا أن نحو 900 متعاقد داخل القطاعات الحكومية ستُفسخ عقودهم — دون احتساب مئات المؤسسات التابعة لـ 34 قطاعًا وزاريًا — فإن حجم التكديس الذي شهدته الإدارات خلال السنوات الأخيرة يتجلى بوضوح.
فقد استغلت كل جهة وصايتها لتكديس متعاقدين بعقود مجزأة ومنفصلة، بعيدًا عن معايير الحاجة الفعلية والكفاءة، مما خلق فجوة حقيقية بين الموارد البشرية والمهام المطلوبة.
من هنا، يصبح التعبير الدقيق عن الحاجة، ووضع معايير واضحة وموضوعية — بعيدًا عن التفصيل على المقاس — ضمانة أساسية للشفافية والولوج العادل للوظائف أو العقود.
ولا غرابة أن تبادر بعض القطاعات بسرعة لتسوية وضعياتها، بينما يتحرك بعضها الآخر بحذر لأنها لم تتأقلم بعد مع متطلبات الانضباط الجديد.
إن تفكيك هذه الشبكة المتشعبة من المحسوبيات واستغلال النفوذ ليس قرارًا إداريًا عاديًا، بل خطوة جوهرية لترسيخ الشفافية وترشيد النفقات ضمن جهود مكافحة الفساد.
فالعقود التي لا تقوم على حاجة حقيقية تتحول سريعًا إلى عبء يرهق المؤسسات والخزينة العامة، بينما تتراجع جودة الخدمات، ويُحرم أصحاب الكفاءة — أفرادًا ومؤسسات — من فرص عادلة يكفلها القانون.
ومن الضروري اليوم العودة إلى المساطر القانونية في الاكتتاب والتوظيف والتعاقد، واحترام مبدأ المنافسة النزيهة، سواء عبر المسابقات أو من خلال فتح باب الترشح وفق معايير موضوعية ووثائق واضحة تضمن الجدارة وتعيد الثقة في المؤسسات.
أما الأعمال الاستشارية فمكانها الطبيعي هو الاستخدام المرن والمحدود الذي يهدف إلى تطوير الأداء، لا أن تتحول إلى ارتباط دائم أو منفذ للنفوذ.
إن مرحلة الفسخ الحالية ليست نهاية مسار، بل بداية مرحلة جديدة تُبنى فيها علاقة الدولة بالخدمات على أسس الحاجة والكفاءة والمهنية، بعيدًا عن العلاقات الشخصية والممارسات التي أنهكت الإدارة وأضعفت ثقة المواطن.
ووفق هذا المسار وحده يمكن إعادة توجيه الموارد نحو ما يخدم المصلحة العامة، وتعزيز صورة الإدارة كمؤسسة فعّالة تقوم على الشفافية واحترام القانون.
وإذا كان القرار عامًا وشاملًا للمؤسسات العمومية، فإننا نكون أمام أكثر من 31 ألف متعاقد مهددين دفعة واحدة، مع إمكانية تصحيح الوضعية القانونية لبعضهم وفقًا للخبرة والكفاءة.
ويبقى السؤال الجوهري: متى ستتحقق نسبية العدالة في آليات الحصول على المعلومة والمنافسة على الفرص دون وسيط؟




