مع بدء الحديث السابق لأوانه عن رئاسيات 2029، تدخل موريتانيا مرحلة جديدة من التساؤلات العميقة، من سيخلف محمد ولد الشيخ الغزواني في الحكم؟
فالمشهد السياسي يتحرك على إيقاع صامت لكن نبراته تتعالى في الكواليس…تحالفات تُنسج بخيوط دقيقة، وطموحات تُخفيها الابتسامات الرسمية، وصراع على الشرعية والقيادة يتجاوز حدود الأحزاب إلى دهاليز الدولة العميقة.
إنها ليست مجرد انتخابات رئاسية على غرار سابقاتها بل معركة مفتوحة على المستقبل، حيث تتقاطع مصالح الداخل مع ضغوط الخارج، وحيث يبحث الموريتانيون عن رئيس يحمل إجابة على أسئلة الأمن والتنمية والهوية في بلد يقف عند مفترق طرق
وضعية مختلفة
خلال عشرية ولد عبد العزيز ظهر اسم محمد الشيخ الغزواني باكرا كخليفة محتمل له نظرا لتقلده مناصب عسكرية سامية، ورفقته لولد عبد العزيز على مدار أربعة عقود من الزمن..
يومها لم يكن هناك مرشح ثاني للنظام يحتمل أن يخلف ولد عبد العزيز غير ولد الغزواني رغم الحديث آنذاك عن نية ملاي محمد لغظف الترشح، والحديث الصامت يومها عن ميول ولد عبد العزيز إلى ترشيح الشيخ ولد بايه إلا أن أحاديث داخل المؤسسة العسكرية جعلت ولد عبد العزيز يدير الأمور بصرامة أظهرها شوط رئاسيات 2019 الأول.
فالتجربة الموريتانية الحديثة أظهرت أن لحظة الانتقال تظل دائمًا محكومة بموازين دقيقة بين المؤسسة العسكرية والنخب التقليدية إضافة إلى تأثير العامل الإقليمي والدولي.
ومن ثمّ فإن استشراف ملامح خليفة ولد الغزواني لا ينفصل عن قراءة المشهد السياسي الحالي ولا عن طبيعة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد في أفق ما بعد 2029.
ورغم أن خريف ولد الغزواني لم تبق إلا ياؤه وفاؤه مازال المشهد السياسي غامضا رغم تأكيد بيرام الداه أعبيد على أنه هو من سيخلف ولد الغزواني في الحكم بغض النظر عن كل الظروف…
بداية إرهاصات 2029..
تقول مصادر خاصة إن تنسيقا ثلاثيا بين مسقارو ولد اغويزي ومحمد سالم مرزوك والمختار اجاي بدأ قبل حوالي شهر كان بداية للتحضير الفعلي لرئاسيات 2029 إذ ناقش الثلاثي وفق المصدر تأسيس حلف سياسي قوي لقطع الطريق أمام بعض القوى داخل النظام وذلك من خلال تهيئة مرشح ذا صلة بالمؤسسة العسكرية وآخر من شريحة لحراطين، وآخر من “الشباب” ولو بالمفهوم الأشمل.
هذا الحلف ظل بعيدا عن الأضواء بحجة عدم تهيئة الظروف المناسبة له بل وحتى بسبب عدم واقعية الحديث عن خليفة ولد الغزواني وهو حينها لم يكمل عامه الأول من ثاني مأموريتيه.
أحد كوادر هذا الحلف تم تداول اسمه مؤخرا بعد منشور للسياسي بيچل ولد هميد طالب من خلاله بترشحيه للرئاسيات المقبلة مع الكثير من الثناء والإعجاب بالمسيرة المهنية.
منشور ولد هميد كان بداية لسيل جارف من المقالات السياسية لبعض وزراء السيادة في الحكومة الحالية ركزت في مجملها على الاصطفاف خلف الرئيس محمد الشيخ الغزواني.
لغة “سياسية” لم تنفِ نية الترشح
ولد مرزوك لم ينفِ في مقاله نيته الترشح للرئاسيات القادمة، واصفا الحديث عن الانتخابات الرئاسية في الظرف الراهن بأنه ” خارج السياق الزمني ومتطلبات المرحلة الراهنة، وإذ يستعصي على المرء إيجاد مسوغات للحديث عن استحقاق انتخابي تفصلنا عن موعده أربع سنوات، وهي فترة تعادل مأمورية أكبر الديمقراطيات في العالم”.
ولد مرزوك أكد في مقاله أن مسؤولية الأغلبية الآن “تقتضي الالتفاف خلف رئيس الجمهورية من أجل الذود عن البلاد وحماية المكتسبات ومواصلة مسيرة البناء وإشاعة السلم الأهلي وتقوية اللحمة الوطنية”.
“محاولة إرباك الرأي العام “
مدير ديوان رئيس الجمهورية، الناني ولد اشروقه، قال في تدوينة له إن تقديم بعض أعضاء الحكومة وهو من بينهم على أنهم مرشحون محتملون لخلافة رئيس الجمهورية محاولة واضحة لإرباك الرأي العام.
وأضاف ولد اشروقه أن الهدف من هذه المنشورات هو “شغل الناس بنقاشات سابقة لأوانها، وصرف الانتباه عن الأمور الجوهرية، وإلحاق الضرر بما يتطلبه التنفيذ الناجع للبرنامج الرئاسي من سكينة وهدوء”، مؤكداً أن هذه الاستراتيجية محكوم عليها بالفشل.
وشدد على أن أعضاء الحكومة لن ينصرفوا عن المهمة التي أوكلها لهم رئيس الجمهورية، وأن مناورات التشويش “لن تضعف من قوة التماسك والتضامن التي توحد الفريق الحكومي في إطار المسؤولية الجماعية والإرادة المشتركة لخدمة الوطن”.
صراع داخل الأغلبية..
يبدو أن خليفة الرئيس كما جرت العادة قد يخرج من رحم الأغلبية الحاكمة نفسها غير أن المشهد ليس بالبساطة المتوقعة فهناك أجنحة داخل النظام تبحث عن ضمان مصالحها، كما أنّ قوى وازنة داخل المؤسسة العسكرية والأمنية ستكون لها كلمة الفصل في تحديد هوية الرئيس المقبل سواء بشكل مباشر أو عبر دعم مرشح بعينه.
رهانات داخل معسكر السلطة
تتداول الأوساط أسماء وزراء حاليين وسابقين باعتبارهم مرشحين محتملين من بينهم وزير الدفاع الحالي حننا سيدي الذي يُنظر إليه كخيار عسكري مطمئن للمؤسسة العسكرية، والمدير السابق للأمن الوطني مسقارو اغويري الذي يحظى هو الآخر بخلفية عسكرية تضمن له قبول المؤسسة الأمنية كما أنه له يدُُ طولى في المدنيين و “المجتمع الموريتاني ” بصفة عامة.
وهناك أيضًا من يرى أن وزير الداخلية الحالي محمد أحمد ولد محمد الأمين يمثل شخصية توافقية تجمع بين البعد السياسي والإداري، خصوصا في ظل الإشادات المتكررة بقراراته المتعلقة بمحاربة الهجرة وتنظيم وضعية المهاجرين في موريتانيا.
المعارضة وأمل التغيير المؤجل..
في الجهة الأخرى تراهن المعارضة على لحظة الانتخابات لإحداث اختراق ويُذكر اسم النائب بيرام الداه اعبيد كأحد أبرز المنافسين المحتملين، خاصة بفضل حضوره الشعبي وخطابه الجريء وحلوله ثانيا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
كما أن حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية تواصل الذي يتزعم المعارضة قد يسعى إلى الترشيح أو التحالف مع مرشح معارض، في حين يُتوقع أن يدخل مرشحون من أحزاب أخرى السباق، لكن ضعف التنسيق التاريخي بين قوى المعارضة، ومواقفها خلال المواسم الرئاسية الماضية قد يبددان هذه الآمال.
التنبؤ الصعب
في النهاية تبدو عملية التنبؤ بخليفة ولد الغزواني معقدة لأنّ المسألة ليست مجرد انتخابات رئاسية بقدر ما هي إعادة ترتيب داخلية عميقة لمراكز القوى مايجعل الباب مفتوحًا أمام أسماء عدة قد تطرح في اللحظة الأخيرة، إما كشخصيات تكنوقراطية مطمئنة للمؤسسة أو كوجوه سياسية جديدة يتم تسويقها كخيار للتجديد.



