جدّد رئيس الحكومة عزيز أخنوش دعوته للوزراء وكتاب الدولة إلى تشديد الانضباط في الإنفاق العمومي، في تكرار لنداء ظل يرافق كل إعداد لمشروع قانون مالية منذ عهد عبد الإله بنكيران، دون أن يفلح على مدى سنوات في كبح المنحى التصاعدي لنفقات التسيير والاستثمار الإداري، والذي بلغ في ظل حكومة أخنوش أعلى مستوياته وفق ما رصدته “الصحيفة”.
وفي مذكرة توجيهية جديدة، إلى الوزراء والوزراء المنتدبين والمندوبين السامين والمندوب العام، وضع أخنوش خطوطا عامة لإعداد مقترحات مشروع قانون المالية لسنة 2026، حاثّا على حصر نفقات الموظفين في حدود الاعتمادات المرصودة، وحصر التوظيفات في الحاجيات الضرورية لإنجاز الأوراش الإصلاحية الملتزم بها، مع ضمان الاستعمال الأمثل للموارد البشرية عبر التكوين وإعادة التوزيع المتوازن بين المستويين المركزي والجهوي.
وشملت التعليمات الحكومية الدعوة إلى ترشيد استهلاك الماء والكهرباء، واعتماد الطاقات المتجددة، وتقليص نفقات الاتصالات، مع إعطاء الأولوية لتصفية المتأخرات خاصة المستحقة لفائدة المكتب الوطني للماء والكهرباء، كما تضمنت المذكرة خفض النفقات المرتبطة بالسفر والنقل داخل وخارج المملكة، والاستقبال والفندقة، والحفلات والندوات والدراسات وتقليص اقتناء السيارات الرسمية وبناء وتهيئة المقرات الإدارية إلا للضرورة.
وفي مجال الاستثمار، ألزم رئيس الحكومة القطاعات بإعطاء الأولوية للمشاريع موضوع التعليمات الملكية أو الاتفاقيات الموقعة أمام الملك أو مع المؤسسات الدولية والدول المانحة، وتسريع المشاريع قيد الإنجاز، مع شرط التسوية القانونية للوضعية العقارية قبل برمجة أي مشروع جديد.
كما حددت المذكرة موعد 31 غشت الجاري، كآخر أجل لإحالة المقترحات على مديرية الميزانية، مرفقة بالوثائق والمعطيات اللازمة، من أجل احترام الآجال الدستورية والقانونية لإيداع مشروع قانون المالية بالبرلمان.
لكن هذه اللغة الصارمة التي تكررت في كل بداية دورة مالية، سواء في عهد أخنوش أو من سبقه لم تترجم، حتى الآن إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع فالمؤشرات المالية تكشف عن منحى تصاعدي للنفقات رغم التوجيهات السنوية وهو ما تظهره معطيات وزارة الاقتصاد والمالية، التر قدرت بلوغ نفقات التسيير والتجهيز باستثناء الأجور، ما يقارب 98 مليار درهم في سنة 2024، مقابل حوالي 67 مليار درهم سنة 2015، أي بزيادة تناهز 46% خلال عقد واحد.
تقرير المجلس الأعلى للحسابات الصادر عن الفترة 2015– 2022 ، هو الاخر سجّل بدوره نموا إجماليا في نفقات الدولة بحوالي 224 مليار درهم، أي بزيادة تفوق 60%، مع ملاحظة أن كتلة الأجور وخدمة الدين والدعم تظل مكونات شبه جامدة في هيكلة الميزانية، ما يحد من أي قدرة حقيقية على تحقيق وفورات من بنود التسيير وحدها كما أشار التقرير إلى ضعف ربط البرمجة المالية بالأداء، وإلى غياب قواعد واضحة لتجميد بعض الاستثمارات أو إعادة برمجتها، ما يفرغ الإجراءات التقشفية من فعاليتها.
من جهة ثانية، ووفق ما عاينته “الصحيفة” فمن بين النقاط التي عادت إلى الواجهة في مذكرات التقشف المتكررة هو أسطول السيارات الرسمية فعلى الرغم من الدعوات المستمرة إلى تقليصه، ظل هذا الأسطول يتوسع، مع ما يرافقه من تكاليف وقود وصيانة وتأمين.
وتشير بيانات رسمية إلى أن مصاريف الوقود والزيوت وحدها بلغت 3.2 مليارات درهم بين 2016 و2022، بزيادة تناهز 33% خلال الفترة نفسها، وهو ما يعكس صعوبة ضبط هذه النفقات في غياب سياسة موحدة للاستعمال والمراقبة.
بالموازاة مع ذلك، تكشف الأرقام أن بند “المعدات والنفقات المختلفة” في قانون مالية 2025 حُدد في 80.22 مليار درهم، وهو رقم ضخم لا يمكن تخفيضه بشكل جوهري عبر إجراءات جزئية كتقليص الحفلات أو الحد من السفر كما أن الدعوة إلى تصفية المتأخرات المستحقة للمكتب الوطني للماء والكهرباء تعكس استمرار تراكم ديون على الإدارات العمومية، وهو وضع قد يؤثر على سير مرافق حيوية في وقت ينتقل فيه المغرب إلى نمط شركات جهوية متعددة الخدمات.
والتحدي يزداد تعقيدا مع التزامات الاستثمار الكبرى التي تتبناها الحكومة فإلى جانب مشاريع البنية التحتية الطرقية والسككية، هناك خطط لتوسيع شبكة القطارات الفائقة السرعة بكلفة تناهز 96 مليار درهم، وبرنامج لتطوير النقل الجوي يتضمن رفع أسطول الناقل الوطني إلى 200 طائرة في أفق 2035، ضمن مخطط تقدّر كلفته بنحو 160 مليار درهم، إضافة إلى مشاريع مطارية تقدر بـ25 مليار درهم وهذه البرامج، رغم أهميتها الاقتصادية، تفرض التزامات مالية متنامية على الميزانية، وتحد من هامش المناورة في مجالات أخرى.
وفي ضوء هذه المعطيات، يبدو أن المذكرات التوجيهية الصادرة عن رئاسة الحكومة رغم أهميتها كإشارة سياسية، لم تتحول بعد إلى آليات تنفيذية مصحوبة برقابة ومحاسبة صارمة، وهو ما يجعل أثرها محدودا في كبح الإنفاق العمومي إذ تظل فعالية أي توجه تقشفي رهينة بقدرة الحكومة على تحويل هذه التوجيهات إلى التزامات ملزمة، مدعومة بمؤشرات قياس دقيقة، وإرادة لمساءلة القطاعات غير الملتزمة، وهي عناصر ما زالت، حتى الآن، في خانة النوايا أكثر منها في خانة الممارسات الفعلية.
وتكشف متابعة “الصحيفة” لمذكرات التقشف الحكومية منذ 2015 أن الخطاب ظل ثابتا في جوهره، بينما تغيّرت فقط الأسماء التي توقّع على الوثيقة السنوية فمنذ حكومة عبد الإله بنكيران إلى سعد الدين العثماني وصولا إلى عزيز أخنوش، تكررت نفس التوصيات: تقليص أسطول السيارات، الحد من نفقات السفر والحفلات، ترشيد استهلاك الماء والكهرباء، وعقلنة نفقات الدراسات والمؤتمرات.
ورغم هذا الثبات في الرسائل، فإن الأرقام المعلنة ترسم مسارا تصاعديا شبه متواصل لنفقات التسيير، باستثناء سنة 2020 التي شهدت انخفاضا ظرفيا بفعل القيود الصحية المرتبطة بجائحة كورونا.
في عهد بنكيران، ورغم اعتماد خطاب تقشفي واضح منذ 2015، ارتفعت نفقات التسيير من 67 إلى 71 مليار درهم خلال ولايته، ما يعكس أن الإجراءات لم تكن مصحوبة بآليات رقابة صارمة أو مؤشرات لقياس أثرها ومع انتقال السلطة إلى حكومة العثماني، استمر المنحى ذاته، إذ وصلت النفقات إلى 75 مليار درهم سنة 2019، في وقت كان فيه المجلس الأعلى للحسابات يسجل اختلالات متكررة في تدبير السيارات الرسمية، وضعف تتبع نفقات الدراسات والندوات.
المرحلة التي قادها عزيز أخنوش منذ أواخر 2021 شهدت تسارعا في وتيرة الإنفاق، مدفوعا ببرامج استثمارية كبرى في البنية التحتية والنقل، لتقفز نفقات التسيير إلى 85 مليار درهم في 2022، ثم 98 مليار درهم في 2024، وهو أعلى مستوى خلال العقد الأخير.
ورغم أن هذه الاستثمارات تندرج ضمن مشاريع استراتيجية، فإن استمرار تضخم النفقات الجارية يطرح إشكالا حول قدرة الحكومة على الموازنة بين تمويل الأوراش الكبرى وضبط الكلفة التشغيلية للإدارة.
وهذا المسار الزمني يوضح أن مذكرات التقشف، في غياب إلزامية تنفيذية وربط حقيقي بين الميزانية والأداء، لم تتجاوز حدود الإشارة السياسية أو الرسالة الإعلامية فالتوجيهات التي تصدر قبل كل إعداد لقانون المالية سرعان ما تصطدم بديناميات إنفاق مترسخة في الإدارة المغربية، وبضغوط سياسية واقتصادية تدفع في اتجاه الحفاظ على مستويات مرتفعة من الصرف، سواء في النفقات الجارية أو في التزامات الاستثمار.
وفي هذا السياق، تبدو المذكرة التوجيهية التي أصدرها عزيز أخنوش بشأن إعداد مشروع قانون المالية لسنة 2026 حلقة جديدة في سلسلة ممتدة منذ عقد، حيث يتكرر خطاب التقشف سنويا دون أن ينجح في كبح المنحى التصاعدي للنفقات.
وتظهر الأرقام المتراكمة منذ 2015، أن الدعوات إلى ترشيد الإنفاق، مهما كانت صياغتها صارمة، تظل عاجزة عن فرض تحول ملموس في السلوك المالي للإدارات، ما لم تُرفق بآليات إلزامية للمحاسبة، ومؤشرات دقيقة لقياس الأثر، وإرادة سياسية لتغيير نمط إعداد وتنفيذ الميزانية وفي غياب هذه الشروط، سيبقى تقليص الحفلات والسفر واقتناء السيارات تفاصيل صغيرة أمام أرقام التسيير التي تواصل الارتفاع، لتجعل من خطاب التقشف أقرب إلى تقليد إداري موسمي منه إلى سياسة مالية حقيقية قابلة للقياس.



