مشروع أنبوب الغاز المغربي النيجيري وتحدياته الاستراتيجية – الصحيفة

admin19 أغسطس 2025آخر تحديث :
مشروع أنبوب الغاز المغربي النيجيري وتحدياته الاستراتيجية – الصحيفة


حين نقترب من مشروع خط أنابيب الغاز المغربي النيجيري، لا يمكننا أن ننظر إليه كمجرد مشروع تقني لنقل الطاقة، بل يتعين أن نقرأه كبنية تحتية سياسية واستراتيجية تعيد ترتيب موازين القوة في الفضاء الأطلسي الإفريقي.

فالمغرب، الذي يفتقر إلى موارد الغاز والنفط التقليدية، وجد في هذا المشروع وسيلة مزدوجة: من جهة لتعويض العجز الطاقي الداخلي وتأمين قاعدة أكثر صلابة لانتقاله الطاقي نحو الطاقات النظيفة، ومن جهة أخرى لإرساء موقعه كبوابة استراتيجية بين إفريقيا وأوروبا.

بهذا المعنى، فإن المشروع ليس استجابة لحاجة اقتصادية عاجلة بقدر ما هو تأسيس لرؤية بعيدة المدى تجعل من الطاقة أداة نفوذ إقليمي ومحددا للعلاقات الدولية، بما في ذلك علاقاته مع الاتحاد الأوروبي الذي يبحث عن بدائل للغاز الروسي، وكذلك مع دول الساحل التي تعاني من انحباس مشاريع التنمية وغياب الربط البيني.

إن تأثير هذا المشروع في المغرب يتجاوز مجرد توفير الغاز لتوليد الكهرباء أو تغذية الصناعات المحلية، بل يشمل إعادة صياغة علاقة المغرب بمحيطه المغاربي والأطلسي. فالمغرب منذ وقف الجزائر لإمدادات الغاز عبر خط أنبوب المغرب إسبانيا في 2021، وجد نفسه أمام امتحان قاس لاختبار مرونته الجيوطاقية. واستطاع عبر استراتيجيات بديلة، مثل استيراد الغاز عبر إسبانيا أو التخطيط لبناء محطة للغاز الطبيعي المسال في الناظور، أن يبرهن أنه قادر على امتصاص الصدمات.

غير أن خط نيجيريا المغرب يختلف جوهريا لأنه يضع حدا نهائيا لحالة الارتهان الطاقي للقرار الجزائري، ويؤسس لمسار طاقي مستقل يعزز السيادة الوطنية. كما أن ربطه بمحطات إنتاج جديدة، كالمحطة الغازية الضخمة بقدرة 990 ميغاواط، يجعل من الغاز وسيلة لتأمين توازن الشبكة الكهربائية ودعم الطاقات المتجددة التي يتوسع المغرب في بنائها.

أبعد من المغرب، فإن المشروع يفتح أمام دول المغرب الكبير أفقا مختلفا عن المنطق الأحادي الذي حكم سوق الغاز لعقود. موريتانيا، التي دشنت إنتاجها من الغاز في حقول الحدود مع السنغال، تجد في هذا الخط فرصة ذهبية للالتحام بمسار إقليمي جديد، يحررها من محدودية أسواقها الداخلية ويجعلها حلقة أساسية في ممر طاقي دولي. أما الجزائر، فهي المعني الأكبر بالمنافسة؛ إذ لم يعد احتكارها لممرات الغاز نحو أوروبا مضمونا، خصوصا وأن أوروبا تنظر بعين الاهتمام إلى تنويع مساراتها بعيدا عن التجاذبات السياسية. وفي المقابل، فإن تونس قد لا تستفيد مباشرة، لكنها ستتأثر بلا شك من حيث إعادة تشكيل الأسعار والخيارات الإقليمية للغاز، ما سيدفعها بدورها إلى التفكير في حلول بديلة، سواء من خلال الطاقات المتجددة أو عبر مشاريع الربط الكهربائي المتوسطية.

إن ارتباط هذا المشروع بالمبادرة الأطلسية الملكية يضفي عليه بعدا يتجاوز المحيط المغاربي ليشمل مجمل فضاء الساحل وغرب إفريقيا. المبادرة التي أعلن عنها الملك محمد السادس سنة 2023، والتي تستهدف فتح منفذ أطلسي لدول الساحل وتكريس التكامل بين الضفة الغربية لإفريقيا وأوروبا، تجد في هذا الأنبوب رافعتها الملموسة. فليس من قبيل المصادفة أن المشروع يتقاطع مع خطاب المغرب عن التنمية المشتركة والمصير الإقليمي الموحد، إذ يتيح الغاز منصة اقتصادية لإعادة دمج دول الساحل المنهكة أمنيا في دورة إنتاجية جديدة. بهذا يصبح الأنبوب أداة استراتيجية في المعركة على مستقبل الساحل: هل يبقى فضاء هشا مفتوحا للتدخلات العسكرية والتجاذبات الدولية، أم يتحول إلى فضاء مدمج في منظومة تنمية أطلسية يقودها المغرب ونيجيريا معا؟

لا يمكن قراءة مشروع الأنبوب المغربي النيجيري دون الوقوف عند معضلة التمويل الدولي التي ترافقه منذ الإعلان عنه سنة 2016. فالمشروع المقدر بحوالي خمسة وعشرين مليار دولار ليس مجرد صفقة اقتصادية، بل هو اختبار لإرادة المجتمع الدولي والمؤسسات المالية في دعم إفريقيا جنوب الصحراء في مسارها نحو التنمية والاندماج.

لقد تأمنت في السنوات الماضية تمويلات جزئية من طرف البنك الإسلامي للتنمية وصندوق أوبك للتنمية الدولية لتغطية تكاليف الدراسات التقنية والجدوى الاقتصادية، لكن هذه مجرد بداية في رحلة طويلة تحتاج إلى تحالف مالي واسع. هنا يبرز التناقض بين الدعوات الغربية لتقليص الاستثمار في الطاقات الأحفورية تحت ضغط أجندة المناخ، وبين الحاجة الواقعية إلى الغاز كطاقة انتقالية في القارة الأفريقية. لذلك يصبح الأنبوب ليس فقط مشروعا لنقل الغاز، بل أيضا ساحة صراع بين رؤيتين: رؤية تسعى إلى حرمان إفريقيا من استغلال مواردها تحت ذريعة البيئة، ورؤية بديلة ترى في الغاز أداة للتحرر الاقتصادي والسياسي.

في هذا السياق، يظهر انخراط قوى خليجية مثل الإمارات كعلامة فارقة. فالإمارات التي راكمت خبرة مالية واستثمارية في مشاريع البنية التحتية الطاقية، باتت مرشحة للمساهمة في تمويل المشروع، بما يضمن استكمال الإغلاق المالي في غياب التزام غربي كاف. كما أن مؤسسات إقليمية مثل مجموعة الإيكواس أو بنك الطاقة الإفريقي قيد التأسيس، مرشحة بدورها لملء الفراغ.

إن تعدد مصادر التمويل يعكس رغبة المغرب ونيجيريا في تفادي الارتهان إلى جهة واحدة، بل بناء شبكة من الداعمين السياسيين والاقتصاديين تتيح للمشروع حماية أكبر في مواجهة الضغوط الدولية. ومن هنا، فإن معركة التمويل لا تقل أهمية عن معركة المسار التقني، فهي التي ستحدد ما إذا كان المشروع سينطلق في آجاله أم سيبقى رهينة الوعود.

أما الجدول الزمني، فيكشف بدوره عن عمق الرهانات الاستراتيجية. فمنذ اكتمال دراسات الجدوى والهندسة في 2024، كان من المفترض أن يتخذ القرار الاستثماري النهائي في أواخر ذلك العام أو مطلع 2025، لكن تعقيدات التمويل والتنسيق بين ثلاث عشرة دولة ساحلية أجلت الحسم.

اليوم، في غشت 2025، يبدو أن المغرب ونيجيريا يتجهان إلى تأسيس شركة ذات غرض خاص لإدارة المشروع، بما يتيح تجاوز عقبة تشتت المسؤوليات. وإذا تم اتخاذ القرار الاستثماري قبل نهاية السنة، فإن المرحلة الأولى التي تربط المغرب بحقول الغاز في موريتانيا والسنغال قد ترى النور مع نهاية العقد الحالي. وهذا السيناريو ينسجم مع الممارسات العالمية في مشاريع مماثلة، حيث تتطلب أعمال التوريد والبناء البحري ما بين ثلاث إلى خمس سنوات، في حين أن التوسع جنوبا حتى نيجيريا قد لا يكتمل إلا في العقد المقبل.

الجدول الزمني إذن ليس مجرد تواريخ تقنية، بل هو انعكاس لتوازنات القوة بين الفاعلين. فكل تأخير في القرار الاستثماري يتيح لمشاريع بديلة أن تتقدم: سواء تلك التي تراهن عليها الجزائر في مساراتها الأوروبية، أو مشاريع الغاز الطبيعي المسال التي تغرق السوق العالمية.

وفي المقابل، فإن تسريع المشروع يمنح المغرب ونيجيريا ورقة قوية لإعادة صياغة قواعد اللعبة في أسواق الطاقة الأطلسية والأفريقية. لهذا فإن القرار الاستثماري المرتقب أواخر 2025 سيعتبر بمثابة لحظة حاسمة: إما أن يدخل المشروع طور التنفيذ، ويبدأ في تغيير معادلات الأمن الطاقي الإقليمي، أو يبقى مجرد حلم يلوح في الأفق، تستهلك طاقته في الخطابات والبيانات المشتركة دون أن ينعكس على الأرض.

إن أخطر ما يواجه مشروع الأنبوب  المغربي النيجيري هو تراكم التحديات البنيوية التي تجعل منه مغامرة استراتيجية أكثر من كونه مشروعا اقتصاديا صرفا. أول هذه التحديات يتعلق بالتنسيق بين ثلاث عشرة دولة تمر عبرها الأنابيب أو تشارك في الاتفاقيات المرتبطة به. فالمشهد السياسي في غرب إفريقيا والساحل ليس مستقرا؛ الانقلابات العسكرية المتكررة، وتنامي النزاعات الداخلية، وصراع القوى الإقليمية والدولية على النفوذ، كلها عناصر تهدد بتأجيل أو حتى تعطيل بعض المراحل.

ومن دون بنية مؤسساتية صلبة وآليات تحكيم فعّالة، يمكن أن يتحول المشروع إلى رهينة لكل أزمة سياسية محلية أو إقليمية. لهذا، فإن الرهان المغربي النيجيري على إطار إيكواس وعلى المبادرة الأطلسية الملكية ليس فقط خطوة تكاملية، بل استراتيجية لتأمين الحماية السياسية لهذا المشروع من التفكك.

التحدي الثاني يرتبط بالسوق الأوروبية التي تمثل الوجهة النهائية المفترضة للغاز. أوروبا تعيش اليوم تحولا جذريا في سياستها الطاقية، فهي، منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، كثفت من واردات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة وقطر، وشرعت في الاستثمار في الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر. وهذا يعني أن الفضاء المتاح أمام الغاز الإفريقي قد يضيق تدريجيا مع حلول الثلاثينيات. هنا يصبح السؤال أكثر خطورة: هل ستظل أوروبا بحاجة فعلية إلى كميات ضخمة من الغاز النيجيري والمغربي؟ أم أن المشروع قد يجد نفسه، بعد استثمارات بمليارات الدولارات، في مواجهة سوق متشبعة؟ الإجابة لا تكمن في أرقام الاستهلاك وحدها، بل في قدرة المغرب ونيجيريا على إعادة توجيه المشروع ليخدم أولا السوق الإقليمية ويستثمر داخليا في تحلية المياه والصناعات الكيماوية وتوليد الكهرباء، قبل أن يكون مجرد ممر تصدير إلى الشمال.

التحدي الثالث هو معضلة البيئة والمجتمعات المحلية. فالخط البحري الطويل، الممتد على آلاف الكيلومترات، سيمر بمحاذاة مناطق صيد تقليدية، ومجتمعات ساحلية تعتمد على الموارد البحرية كمصدر وحيد للعيش. أي خلل بيئي أو تسرب محتمل قد يفضي إلى توترات اجتماعية واسعة تفقد المشروع شرعيته في الداخل.

إن تجارب مشاريع الغاز السابقة في دلتا النيجر خير مثال على خطورة تجاهل هذا البعد. ولذلك فإن نجاح المشروع يتوقف على مدى جدية المغرب ونيجيريا في بناء خطط للتعويض والاندماج الاجتماعي، وتقديم مشاريع موازية للتنمية المحلية، حتى لا ينظر إلى الأنبوب كرمز لاستخراج الثروة دون مردود شعبي. إن البنية التحتية الطاقية إذا لم تقرن ببنية اجتماعية عادلة، تتحول إلى وقود للاضطرابات بدل أن تكون رافعة للاستقرار.

لكن رغم هذه التحديات، فإن المشروع يظل أفقا استراتيجيا فريدا من نوعه، لأنه يتيح للمغرب إعادة تشكيل موقعه في المغرب الكبير والساحل، ولنيجيريا فرصة للانفتاح على الأطلسي ومخاطبة أوروبا بلسان الشريك لا المورد الهامشي. كما أنه يضع الجزائر أمام خيارين: إما الاستمرار في منطق الاحتكار والمواجهة، أو الانخراط في منطق تكاملي جديد يعيد تشكيل المغرب الكبير على قاعدة المصالح المشتركة. إن قرار الاستثمار المرتقب، والتقدم في بناء المراحل الأولى للأنبوب، سيحددان إن كان هذا المشروع سيتحول إلى رافعة لتوحيد الفضاء الأطلسي الإفريقي أم إلى مثال آخر على عجز القارة عن تحويل أحلامها الكبرى إلى واقع. وهنا بالضبط تكمن أهميته: فهو مرآة لمستقبل المنطقة، إما مستقبل اندماج وتكامل، أو مستقبل انقسام وتبديد للفرص.

إن خط أنابيب الغاز  المغربي النيجيري ليس مجرد مشروع لنقل الطاقة، بل هو تعبير عن معركة أوسع على مستقبل المنطقة بين منطق التبعية ومنطق الاستقلال، بين أوهام الاستهلاك السريع للثروات وأحلام بناء شراكة أطلسية إفريقية جديدة. لقد كشف هذا المشروع، في كل تفاصيله التقنية والمالية والزمنية، أن الرهان الحقيقي ليس في أعداد الكيلومترات ولا في حجم المليارات المرصودة، بل في قدرة المغرب ونيجيريا ومعهما دول الساحل على تحويله إلى أداة للاندماج الإقليمي والتكامل الاقتصادي والسياسي.

فالتحديات كثيرة: من التمويل المعقد إلى تقلبات السوق الأوروبية، ومن هشاشة السياقات السياسية في غرب إفريقيا إلى الضغوط البيئية والاجتماعية. غير أن الفرص أعظم: سيادة طاقية للمغرب، منفذ أطلسي لدول الساحل، وممر استراتيجي يربط إفريقيا بأوروبا خارج منطق الاحتكار والمواجهة. هكذا يصبح الأنبوب أكثر من خط للغاز، إنه خط فاصل بين زمن قديم من الانقسامات وزمن جديد من التكتلات والرهانات الكبرى، وزمن لا يترك مجالا إلا لشعوب تعرف كيف تحول مشاريعها إلى أدوات للحرية والسيادة والاندماج.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة



Source link

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة