معهد باستور على حافة الخوصصة.. وزير الصحة يصدر قرارا غامضا يهدد السيادة الصحية للمغرب بسحبه رخص استيراد اللقاحات

admin26 سبتمبر 2025آخر تحديث :
معهد باستور على حافة الخوصصة.. وزير الصحة يصدر قرارا غامضا يهدد السيادة الصحية للمغرب بسحبه رخص استيراد اللقاحات


دخل معهد باستور بالمغرب، وهو إحدى أعرق المؤسسات الصحية الوطنية التي تأسست سنة 1929 قبل أن يُعاد تنظيمها بمرسوم ملكي سنة 1967، مرحلة من الغموض والتهديد غير المسبوق بعد تداول أنباء  عن قرار وزارة الصحة والحماية الاجتماعية يقضي بسحب رخص استيراد وتوزيع اللقاحات منه لفائدة شركات خاصة.

القرار الذي ظل يتداول في كواليس الوزارة منذ أسابيع لم يصدر بشأنه أي بلاغ رسمي أو توضيح غير أن صمته زاد من حجم المخاوف وفتح الباب أمام تأويلات عديدة، لاسيما وأن المعهد ظل لعقود طويلة هو الذراع السيادي للدولة في مجال إنتاج واستيراد وتوزيع الأمصال واللقاحات، ورمزاً للسيادة الصحية المغربية.

ووفق المعطيات التي استقتها “الصحيفة”، فإن القرار يهدد بفقدان المؤسسة حوالي 80 في المائة من مواردها المالية وهي الموارد التي تمثل العمود الفقري لتمويل الأبحاث والبرامج العلمية التي يشرف عليها المعهد، وأجور أطره من باحثين وتقنيين متخصصين. 

وأكدت مصادر من داخل المعهد أن الإجراء الجديد لا يعني فقط تقليص صلاحيات تاريخية منحت بمقتضى القانون والمرسوم الملكي، بل يضع مستقبل المئات من الأطر في مهب المجهول، ويهدد استمرارية مؤسسة سيادية طالما ارتبط اسمها بمواجهة الأوبئة وتحصين الأمن الصحي للمغاربة.

من جهة ثانية، فإن القرار لم يمر مرور الكرام داخل الأوساط السياسية إذ بادر الفريق الاشتراكي بمجلس النواب إلى توجيه سؤال شفوي إلى وزير الصحة أمين التهراوي، مطالبا بكشف دواعي هذه الخطوة التي تمس مؤسسة عمومية عريقة لعبت أدوارا محورية، كان أبرزها خلال جائحة كوفيد-19 حين تولى المعهد مهام استيراد وتأمين اللقاحات التي أنقذت حياة آلاف المواطنين. 

الفريق النيابي استحضر المرسوم الملكي لسنة 1967، الذي منح معهد باستور مهمة إنتاج واستيراد وتوزيع الأمصال واللقاحات باعتباره مؤسسة صيدلانية صناعية عمومية، مؤكدا أن تجريد المعهد من صلاحياته يطرح علامات استفهام كبرى حول الغاية من تحويل اختصاص سيادي إلى القطاع الخاص وهل يتعلق الأمر بإصلاح حقيقي يروم تعزيز الكفاءة والشفافية، أم أننا أمام خطوة في اتجاه خوصصة قطاع حساس يمس مباشرة حياة وصحة المواطنين.

البرلمانيون الاشتراكيون شددوا على أن هذا القرار لن يهدد فقط استقراره المؤسسي، بل سيضرب في العمق برامج الأبحاث العلمية التي يُموّلها من مداخيله الذاتية، وسيضع مئات الأطر الطبية والعلمية أمام مستقبل غامض كما حذروا من أن نقل صلاحيات المعهد إلى القطاع الخاص لن يكون مجرد عملية تقنية، بل خطوة نحو خوصصة الأمن الصحي الوطني بما يحمله ذلك من مخاطر على مجانية التلقيح، وقدرة الدولة على التدخل السريع في الأزمات الوبائية، واحتمال خضوع سوق اللقاحات لمنطق الاحتكار والربح بدل منطق الخدمة العمومية.

مقابل هذا الصمت الوزاري، ارتفعت أصوات من داخل المجتمع المدني تحذر من خطورة ما يجري بما فيها علي لطفي رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة، الذي عبّر في تصريح لـ”الصحيفة” عن رفضه القاطع للخطوة التي وصفها بـ”المتهورة”، مؤكدا أنها تمثل تهديدا صريحا للأمن الصحي الوطني، وتمهيدا لخوصصة مؤسسة استراتيجية تضطلع بأدوار علمية وبحثية لا يمكن تعويضها. وأوضح أن معهد باستور ظل على مدى عقود ركيزة للسيادة الصحية المغربية، ليس فقط في استيراد وتوزيع اللقاحات بل أيضا في البحث العلمي والرصد الوبائي وإنتاج الأمصال ومواجهة أمراض خطيرة مثل السعار والإيدز، والمساهمة في التصدي لجائحة كورونا، فضلا عن اعترافه كمركز إقليمي للتميز من قبل الاتحاد الأفريقي.

ويضيف لطفي أن خوصصة قطاع اللقاحات من شأنها أن تفتح الباب أمام زيادات مهولة في أسعارها مما سيجعل الأسر الفقيرة والمتوسطة أمام أعباء مالية إضافية، ويضع الجماعات الترابية الفقيرة في مأزق يهدد قدرتها على توفير التغطية الصحية للفئات الهشة كما أن المساس بموارد المعهد المالية سيؤدي إلى تجميد أو إلغاء العديد من مشاريع الأبحاث التي يقودها باحثون مغاربة في مجالات دقيقة كأمراض السرطان والأمراض الطفيلية.

من الناحية السياسية، يضع القرار الجديد الوزير الوافد على القطاع أمين التهراوي، في قلب عاصفة من الانتقادات إذ يرى متابعون أن خطوته هذه تندرج ضمن توجه أوسع لفتح الباب أمام القطاع الخاص في ملفات كانت إلى وقت قريب من صميم السيادة العمومية للدولة ;المنتقدون يعتبرون أن “إصلاح المنظومة الصحية” الذي ترفعه الحكومة قد يتحول إلى ذريعة لتجريد المؤسسات العمومية من اختصاصاتها وتحويلها إلى مؤسسات شكلية، وهو ما من شأنه أن يقوض ثقة المواطن في الجهاز الصحي برمته.

والمعهد نفسه يعيش حالة من الترقب والقلق، فالموظفون والباحثون يتساءلون عن مصيرهم في حال فقدان المؤسسة لجزء كبير من مواردها والبعض تحدث عن “ضغوط قوية تمارس منذ شهور” لإضعاف دور المعهد في السوق اللقاحية، تمهيدا لتمكين شركات محددة من الاستحواذ على هذا المجال فيما هذا الوضع وفي غياب أي خطة واضحة لضمان استمرارية تمويل الأبحاث ودفع أجور الأطر، يفتح الباب أمام نزيف كفاءات قد تختار الهجرة نحو مؤسسات أجنبية تقدر خبرتها أكثر مما تفعل دولتهم.

الانعكاسات على المواطنين تبدو أكثر خطورة، إذ أن نقل مهمة توزيع اللقاحات إلى القطاع الخاص سيجعل الأسعار رهينة منطق السوق، وهو ما يعني أن مجانية التلقيح التي استفاد منها المغاربة لعقود قد تصبح في خبر كان كما أن المجالس الجماعية التي تعتمد على هذه اللقاحات لتغطية ساكنتها ستجد نفسها مضطرة لتخصيص ميزانيات أكبر، وهو ما قد يؤثر على برامج تنموية أخرى والأخطر أن أي اختلال في منظومة التوزيع قد يؤدي إلى اضطراب في الإمدادات، خاصة في أوقات الأزمات الصحية، مما يهدد استقرار الأمن الصحي الوطني.

المثير أن كل هذه التداعيات تُطرح وسط غياب مطبق للوزارة التي لم تصدر أي بلاغ توضيحي، في وقت تتداول فيه وسائل الإعلام والبرلمان ومصادر من داخل المعهد تفاصيل القرار، وهو ما يزيد من فقدان الثقة في قدرة الحكومة على إدارة قطاع حساس بشفافية ومسؤولية لكن ما هو ثابت أن معهد باستور المغرب يقف اليوم على مفترق طرق حاسم، والقرارات المتخذة في هذه المرحلة ستحدد مستقبله لعقود قادمة وإذا لم تتحرك الحكومة لتوضيح الرؤية وضمان بقاء المعهد في موقعه الطبيعي كحارس للأمن الصحي الوطني، فإن المخاوف التي يعبّر عنها الباحثون والنقابيون والمجتمع المدني قد تتحول إلى واقع مؤلم، لن ينعكس فقط على المؤسسة بل على الصحة العمومية برمتها.



Source link

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة