في خضم التحولات الدولية الراهنة، تأتي زيارة الوفد البرلماني الأطلسي إلى مليلية في لحظة يتشابك فيها البعد الجيوسياسي مع قضايا الدفاع والأمن. فالعالم ما زال يعيش تداعيات الحرب في أوكرانيا، وهي حرب أعادت ترتيب أولويات حلف الناتو ودفعته إلى توسيع دائرة اهتمامه بالفضاء المتوسطي. كما أن التوترات المستمرة في شمال أفريقيا، سواء في علاقة المغرب بإسبانيا أو في التنافس الإقليمي مع الجزائر، تجعل من هذه الزيارة حدثا يفرض نفسه على أجندة النقاش الاستراتيجي في المنطقة.
وتبرز مليلية هنا باعتبارها مدينة حدودية تشكل نقطة تماس بين أوروبا وأفريقيا، بل هي إحدى البوابات التي تنقل أزمات الجنوب إلى الشمال، سواء عبر ملف الهجرة أو عبر التهديدات الأمنية العابرة للحدود. هذا الموقع الخاص يمنحها مكانة متقدمة في تفكير الأطلسيين، خصوصا أنها تمثل في الوعي الإسباني خطا أحمر لا يمكن المساس به. لذلك، فإن انتقال وفد برلماني أطلسي إليها لا يمكن النظر إليه كزيارة بروتوكولية عابرة، بل كخطوة محسوبة لها غايات سياسية ودبلوماسية واضحة.
ومن جهة أخرى، فإن الحضور البرلماني الأطلسي يعطي الإشارة إلى أن النقاش حول أمن مليلية لم يعد حبيس الدوائر التقنية أو العسكرية وحدها، بل أصبح مطروحا في فضاء أوسع حيث يجتمع صناع القرار المنتخبون من دول مختلفة. وهذه الدلالة توضح أن إسبانيا تريد أن تعطي لمدينتها طابعا أطلسيا، من خلال إشراك الحلف ولو على مستوى استشاري غير ملزم. إنه تحرك يراد منه أن يترسخ في المخيال السياسي الغربي أن مليلية ليست مجرد قضية ثنائية، بل شأن يمس أمن الحلف بكامله.
هنا تطرح الإشكالية الكبرى: هل يمكن للناتو فعلا أن يتدخل لحماية مدينة موضوعة في قلب نزاع سياسي بين إسبانيا والمغرب؟ هل تمنح المعاهدة التأسيسية للحلف الغطاء القانوني لذلك، أم أن الأمر يبقى رهينا بقرار سياسي ظرفي؟ هذه الأسئلة هي التي تجعل من الحدث موضوعا للاستقصاء والتحليل الاستراتيجي، وتضعنا أمام تناقض واضح بين طموح إسباني في توسيع المظلة الأطلسية وبين القيود القانونية التي تحكم النصوص المؤسسة للحلف.
أولا، في تفاصيل برنامج الزيارة الأطلسية إلى مليلية:
تؤكد الصحافة الإسبانية أن برنامج الزيارة قد تم توزيعه على يومين كاملين داخل مليلية، بعد جلسة افتتاحية احتضنتها مدريد. ففي يوم السادس والعشرين من سبتمبر يبدأ الوفد البرلماني الأطلسي لقاءاته الرسمية مع ممثلي السلطات المحلية والجهوية، حيث سيستقبل أعضاء الوفد في مقر البرلمان المحلي وتقدم لهم شروح موسعة حول الوضع الأمني والاجتماعي في المدينة. أما اليوم التالي، السابع والعشرون من سبتمبر، فقد خصص للجولات الميدانية والزيارات إلى المرافق الحساسة ذات الصلة بالهجرة والأمن والدفاع.
من أبرز المحطات التي أدرجت في جدول الأعمال زيارة مركز استقبال المهاجرين المعروف باسم CETI، حيث يتعرف البرلمانيون الأطلسيون على ظروف الإيواء والتدبير اليومي لتدفقات الهجرة القادمة من الضفة الجنوبية. كما يتضمن البرنامج المرور بمناطق مراقبة الحدود ومراكز الحرس المدني، إضافة إلى تفقد التحصينات المحيطة بالمدينة والتي لطالما كانت موضع جدل في الخطاب الإعلامي والسياسي الإسباني. هذه الزيارات ليست تقنية فقط، بل تحمل بعدا سياسيا واضحا يتمثل في إبراز الجهود الإسبانية في حماية حدود أوروبا الجنوبية.
الصحف المحلية مثل El Faro de Melilla وMelilla Hoy تحدثت عن تعبئة كبيرة من طرف السلطات لإعطاء الزيارة طابعا ناجحا، إذ جرى إعداد لقاءات مع ممثلي المجتمع المدني وبعض الهيئات الأكاديمية من أجل إبراز صورة متكاملة عن وضعية المدينة. في المقابل، ركزت منابر أخرى مثل El País وEl Confidencial على أن الزيارة تحمل قيمة سياسية أكبر من بعدها العملي، فهي وسيلة لإبراز أن مليلية تقع في قلب الاهتمام الأطلسي رغم الجدل القانوني حول نطاق التغطية الدفاعية للحلف.
هذا التوزيع الدقيق للبرنامج يوضح أن الزيارة قد خطط لها بعناية حتى تحقق أكبر قدر من الظهور الإعلامي والسياسي، من خلال الجمع بين اللقاءات الرسمية التي تمنحها الشرعية المؤسساتية، والجولات الميدانية التي تتيح للوفد الاطلاع المباشر على الواقع الأمني والإنساني. وبهذا، تحاول إسبانيا أن تدفع باتجاه تثبيت موقع المدينة المحتلة في الوعي الأطلسي كخط دفاع أول، من دون الحاجة إلى الدخول في نقاش قانوني معقد حول النصوص التأسيسية للحلف.
ثانيا، الرسائل السياسية والدبلوماسية:
تسعى إسبانيا من خلال هذه الزيارة إلى إرسال رسالة واضحة مفادها أن مليلية ليست مجرد قضية محلية مرتبطة بحدودها مع المغرب، بل هي شأن أوروبي وأطلسي يهم استقرار الحلف بكامله. فاستقبال وفد برلماني متعدد الجنسيات يعطي للمدينة بعدا دوليا يتجاوز النقاش الثنائي، ويؤطرها داخل أجندة أمنية أكبر ترتبط بالمتوسط والجنوب الأطلسي. هذه الرسالة تجد صداها في الخطاب السياسي الإسباني الذي طالما ربط بين أمن المدينتين وبين أمن أوروبا، معتبرا أن أي تهديد لهما هو تهديد للمنظومة الغربية مجتمعة.
كما يمكن قراءة الزيارة باعتبارها ورقة داخلية في السياسة الإسبانية، حيث تسعى الحكومة إلى طمأنة الرأي العام بأن مليلية ليست منسية في أجندة الحلف، وأنها محمية ولو سياسيا بارتباطها بالناتو. في هذا السياق، تشكل الزيارة دعما للسلطات المركزية أمام الضغوط التي تمارسها المعارضة والأصوات المحلية المطالبة بضمانات أوضح. فالحضور الأطلسي يمنح غطاء سياسيا للحكومة ويظهر أنها قادرة على استقطاب اهتمام الحلف في قضية تعتبرها استراتيجية.
أما على المستوى الخارجي، فإن الرسالة موجهة بالدرجة الأولى إلى المغرب، الذي يرى في أي تحرك أطلسي داخل مليلية أو سبتة خطوة تمس برؤيته للنزاع القائم. من خلال هذه الخطوة، تؤكد إسبانيا أن وضع المدينتين غير قابل للتفاوض، وأنها تعمل على إدخالهما ضمن دائرة اهتمام الحلفاء. وفي المقابل، تراهن مدريد على أن المغرب، بحكم تعاونه المتزايد مع الناتو في مجالات متعددة، لن يتجه إلى تصعيد مباشر، لكنه سيظل متحفظا إزاء ما يعتبره تسييسا للملف.
على الصعيد الأوروبي الأوسع، تحمل الزيارة رسالة ثانية مفادها أن الجنوب المتوسطي بات جزءا من التفكير الأمني الجماعي، وأن قضايا الهجرة والإرهاب والحدود ليست هما إسبانيا فحسب، بل شأنا يمس أمن الحلف. وبهذا، توظف إسبانيا الزيارة لتقوية موقعها داخل الناتو، وللتأكيد على أن الدفاع عن مليلية هو جزء من الدفاع عن القارة بأكملها، حتى لو لم يكن ذلك مثبتا نصيا في معاهدة واشنطن.
ثالثا، في البعد القانوني:
يقتضي فهم وضع مليلية في علاقة بحلف الناتو العودة إلى النصوص المؤسسة للحلف، وتحديدا معاهدة واشنطن لسنة 1949. فالمادة الخامسة تنص على مبدأ الدفاع الجماعي، أي أن أي هجوم مسلح على عضو واحد يعتبر هجوما على جميع الأعضاء. غير أن هذا المبدأ مرتبط مباشرة بالمادة السادسة، التي تحدد النطاق الجغرافي للتغطية الدفاعية. وهنا يبرز الإشكال: إذ تنص المادة السادسة على أن الالتزامات تشمل أراضي الأطراف في أوروبا وأمريكا الشمالية، وأراضي تركيا، والجزر الواقعة تحت سيادة أي طرف في المنطقة الواقعة شمال مدار السرطان.
من خلال هذا التحديد، يظهر أن مليلية وسبتة لا تندرجان صراحة ضمن هذا النطاق، إذ إنهما تقعان في شمال أفريقيا، وهو ما يفتح باب التأويل والجدل القانوني. وقد ناقشت الأوساط الإسبانية مرارا هذا الغياب، حيث اعتبرت بعض الأصوات أن الموقع الجغرافي للمدينتين يجعلهما خارج التغطية التلقائية للمادة السادسة. في المقابل، يرى اتجاه آخر أن انتماءهما السياسي والإداري إلى إسبانيا، العضو في الحلف، ينبغي أن يضمن لهما الحماية بحكم السيادة الإسبانية عليهما.
الصحافة الإسبانية سلطت الضوء على هذا التناقض بين الطموح السياسي والقيود القانونية. فبينما تراهن مدريد على إشارات الدعم السياسي التي يطلقها الحلف في خطاباته، يعترف القانونيون بأن نصوص المعاهدة لم تصغ أصلا لتغطية مناطق متنازع عليها أو أراض تقع خارج أوروبا الصريحة. ومن هنا، فإن أي تفعيل للمادة الخامسة في حال تعرض مليلية لهجوم لن يكون آليا، بل رهينا بقرار سياسي يصدر عن مجلس شمال الأطلسي وفق الظروف والاعتبارات الاستراتيجية.
بهذا، يتضح أن البعد القانوني يمثل قيدا أساسيا على الطموحات الإسبانية، إذ يضعها بين خيارين: إما الاكتفاء بالدعم السياسي الذي يمنحه الحلف دون ضمانات مكتوبة، أو السعي إلى تعديل في الصياغات المعتمدة، وهو أمر صعب التحقق نظرا لتعقيدات المصالح بين الدول الأعضاء. وبين هذين الخيارين، يبقى الغموض سيد الموقف، ما يجعل الزيارات البرلمانية أو التصريحات الرسمية ذات قيمة سياسية أكثر مما هي التزام قانوني صريح.
رابعا، خطاب الناتو الاستراتيجي:
أصدرت قمة مدريد سنة 2022 وثيقة المفهوم الاستراتيجي الجديدة لحلف الناتو، وقد حملت هذه الوثيقة إشارات واضحة إلى ضرورة حماية سيادة الدول الأعضاء وسلامة أراضيها. غير أن هذه الصياغة العامة لم تحدث تعديلا مباشرا في المادة السادسة من معاهدة واشنطن، ما يعني أن الوضع القانوني لمليلية وسبتة ظل على حاله. مع ذلك، فإن حضور هذه العبارات في الوثائق الاستراتيجية يمنح إسبانيا رصيدا سياسيا إضافيا تستخدمه للدفاع عن موقع المدينتين ضمن اهتمام الحلف.
تصريحات قادة الناتو عقب قمة مدريد ركزت على أهمية الجبهة الجنوبية والتهديدات الصادرة عن الفضاء المتوسطي، سواء تعلق الأمر بالهجرة غير النظامية أو الإرهاب أو المنافسة الجيوسياسية. وقد استفادت إسبانيا من هذه التصريحات لتأكيد أن مليلية وسبتة تمثلان خط دفاع متقدم لأوروبا، وأن أي تهديد يواجههما يجب أن يعتبر تهديدا لأمن الحلفاء جميعا. ورغم أن هذه التصريحات لا تنشئ التزاما قانونيا، فإنها توفر لإسبانيا أداة قوية في سجالاتها الداخلية والخارجية.
إلا أن حدود هذا الدعم تبقى واضحة: فالناتو لم يعلن صراحة أن المدينتين مشمولتان بالمادة الخامسة، ولم يتخذ أي قرار رسمي يوسع النطاق الجغرافي للحماية. كل ما في الأمر أن الحلف يرسل إشارات سياسية مرنة، تسمح بالتأويل دون أن تفرض التزاما مكتوبا. وهذا ما يجعل إسبانيا في موقع دقيق، إذ يتعين عليها أن توظف هذا الغطاء الخطابي دون أن تبالغ في تقديمه كضمان أكيد أمام مواطنيها أو أمام خصومها.
عمليا، في حال تعرض مليلية لتهديد أمني حقيقي، فإن قرار التدخل الأطلسي سيظل رهينا بمدى استعداد الدول الأعضاء لتحمل تبعات المواجهة. وهذا ما يعني أن مستقبل المدينتين في الحلف يتوقف أكثر على الإرادة السياسية واللحظة الدولية من أي نصوص قانونية. من هنا يمكن فهم إصرار إسبانيا على استثمار كل زيارة أو تصريح صادر عن الناتو لتقوية موقعها، حتى لو كان ذلك مجرد خطاب استراتيجي لا يتجاوز حدود الرسالة الرمزية.
خامسا، الموقف المغربي والإقليمي:
يشكل الموقف المغربي من زيارة الوفد الأطلسي إلى مليلية أحد العناصر الأكثر حساسية في هذا الملف. فالمغرب يعتبر المدينتين أراضي محتلة، وأي تحرك دولي يمنحهما بعدا أطلسيا ينظر إليه في الرباط باعتباره تكريسا للأمر الواقع. لذلك، فإن ردة الفعل المغربية تتراوح عادة بين الصمت الحذر والاعتراض الدبلوماسي غير المباشر، تجنبا لفتح مواجهة مباشرة مع الحلف الذي يعد المغرب شريكا مهما له في مجالات متعددة. هذا التوازن يعكس معضلة حقيقية: كيف يعبر المغرب عن رفضه دون أن يضر بمصالحه الاستراتيجية مع الناتو.
الصحافة المغربية تميل إلى قراءة الزيارة بوصفها جزءا من سياسة إسبانية تهدف إلى تدويل قضية المدينتين، وهو ما يثير تحفظا واسعا. فالمغرب يستثمر شراكته المتقدمة مع الحلف في إطار الحوار المتوسطي ومبادرات مكافحة الإرهاب، ولا يرغب في خسارة هذا الموقع. غير أن رؤية وفد أطلسي رفيع يتنقل في مليلية تعتبر إشارة مزعجة، لأنها قد تستعمل كدليل سياسي على أن الحلف يقف إلى جانب الرواية الإسبانية.
على الصعيد الإقليمي، تراقب الجزائر التطورات بعين لا تخلو من الحذر. فبالنسبة لها، فإن أي تعزيز للحضور الأطلسي في الضفة الجنوبية يعتبر مبررا لتوثيق تعاونها العسكري مع روسيا والصين. كما أن الاتحاد الإفريقي يظل متحفظا على أي محاولة لإدخال مناطق متنازع عليها ضمن أجندة حلف عسكري غربي، معتبرا أن ذلك يعقد النزاعات بدل أن يسهم في حلها. وبالتالي، فإن الزيارة لا تقتصر تداعياتها على علاقة المغرب بإسبانيا، بل تتعداها إلى إعادة تشكيل توازنات أوسع في المنطقة.
هذا الوضع يضع إسبانيا أمام معادلة معقدة: فهي تسعى إلى طمأنة الداخل واستعراض دعم الحلف، لكنها في المقابل تخاطر بتأزيم علاقتها مع المغرب، الذي يشكل شريكا حيويا في قضايا الأمن والهجرة. كما أنها تثير مخاوف إقليمية أوسع قد تدفع لاعبين آخرين إلى تعزيز خياراتهم المناوئة للناتو. ومن هنا، فإن الزيارة قد تحقق مكاسب سياسية محدودة على المدى القصير، لكنها تفتح أيضا جبهات من التوتر قد يصعب التحكم في تداعياتها على المدى البعيد.
سادسا، خيارات المغرب الاستراتيجية في ظل تحركات الناتو بمليلية المحتلة:
يقف المغرب أمام واقع مركب يتطلب قراءة استراتيجية عميقة تتجاوز ردود الفعل الآنية. فزيارة الوفد الأطلسي إلى مليلية تضعه في مواجهة معادلة حساسة: الحفاظ على موقعه كشريك موثوق للناتو، وفي الوقت نفسه منع أي محاولة لإضفاء شرعية سياسية على وضع يعتبره غير مشروع. هذا التحدي يفرض على المغرب التفكير في خيارات عملية متدرجة، لا تكتفي بمجرد التحفظ الدبلوماسي، بل تسعى إلى صياغة استراتيجية بعيدة المدى.
الخيار الأول يتمثل في إدارة الموقف عبر دبلوماسية متعددة المستويات. فالمغرب يمكنه أن يستثمر علاقاته الثنائية مع دول أساسية داخل الحلف، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، لشرح موقفه والتأكيد على أن أي خطوة تقرأ كتثبيت لوضع مليلية تمثل مساسا بعلاقاته مع الناتو. هذا الخيار يقوم على مبدأ أن الحلف ليس كتلة صماء، بل شبكة مصالح متداخلة يمكن التأثير فيها عبر القنوات الدبلوماسية المتخصصة.
الخيار الثاني يتركز حول إعادة تعريف التعاون الأمني. المغرب يظل طرفا لا غنى عنه في قضايا الإرهاب والهجرة وأمن المتوسط، وهي ملفات حساسة بالنسبة للحلف. من هنا، يمكنه أن يعزز تعاونه العملي مع الناتو، ولكن وفق صيغة مشروطة: أي أن هذا التعاون يجب أن يتجنب الخلط بين الشراكة الاستراتيجية وبين ترسيخ وضع المدينتين. بهذا، يبعث المغرب برسالة مزدوجة: استمرارية الشراكة من جهة، وتمسك بالثوابت السيادية من جهة أخرى.
أما الخيار الثالث فهو توسيع هامش المناورة عبر التحالفات الموازية. فإذا ما تبين أن بعض دوائر الناتو تميل إلى تجاهل التحفظ المغربي، يمكن للمغرب أن يلوح بخيارات أخرى، مثل تعزيز شراكاته مع الاتحاد الإفريقي، أو تفعيل حضوره في مبادرات إقليمية متوسطية لا تخضع مباشرة لمظلة الأطلسي، أو حتى تطوير علاقاته الاقتصادية والعسكرية مع قوى كبرى خارج المعسكر الغربي. هذه المناورة لا تعني بالضرورة القطيعة، لكنها تشكل أداة ضغط تذكر الحلف بقيمة المغرب الاستراتيجية خارج إطاره.
في العمق، يظل الخيار الأكثر واقعية هو النهج المركب: مزيج من الحضور الدبلوماسي اليقظ، والتعاون الأمني المشروط، والقدرة على المناورة عبر تحالفات بديلة. فالمغرب لا يمكنه أن يخسر موقعه كشريك محوري للناتو في جنوب المتوسط، لكنه أيضا لا يستطيع القبول بتكريس واقع يتعارض مع مطالبه التاريخية. ومن هنا، فإن إدارة هذه المعادلة تتطلب استراتيجية طويلة الأمد، حيث يستخدم كل ملف من ملفات التعاون كوسيلة تذكير بأن قضية مليلية وسبتة ليست قابلة للتجاهل أو التطبيع.
تكشف قراءة تفاصيل زيارة الوفد البرلماني الأطلسي إلى مليلية عن مسار مزدوج: مسار إسباني يسعى إلى استثمار كل فرصة لترسيخ حضور المدينتين في وعي الحلفاء الغربيين، ومسار قانوني يظل مقيدا بنصوص معاهدة واشنطن التي لم تصمم أصلا لتغطية مناطق متنازع عليها خارج أوروبا الصريحة. هذا التباين يجعل من كل تحرك أطلسي في مليلية فعلا ذا طابع سياسي وإعلامي أكثر منه التزاما قانونيا، وهو ما يعكس حدود قدرة إسبانيا على تحويل الدعم الخطابي إلى حماية فعلية.
غير أن أهمية الزيارة تتجاوز بعدها المحلي لتطرح أسئلة أوسع حول مستقبل الأمن في جنوب المتوسط. فالناتو، المنشغل بالحرب في أوكرانيا وبالتحديات الشرقية، يجد نفسه مدفوعا أيضا إلى الالتفات إلى حدوده الجنوبية، حيث تتقاطع قضايا الإرهاب والهجرة والنزاعات الحدودية. في هذا السياق، تسعى إسبانيا إلى جعل مليلية رمزا لارتباط الجنوب بالمنظومة الأطلسية، فيما ينظر المغرب إلى هذه المحاولات باعتبارها مساسا بثوابته الوطنية.
التوتر القائم يضع المغرب أمام تحد استراتيجي طويل الأمد: فهو في حاجة إلى الاستفادة من موقعه كشريك موثوق للناتو، وفي الوقت ذاته عليه أن يحمي مصالحه السيادية دون الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع الحلف. والخيارات التي جرى تحليلها، من الدبلوماسية متعددة المستويات، إلى التعاون الأمني المشروط، وصولا إلى توسيع هامش المناورة بتحالفات بديلة، تفتح أمامه إمكانات متعددة لتدبير الموقف ببراغماتية وحذر.
في المحصلة، تظهر الزيارة أن مستقبل مليلية المحتلة داخل أجندة الناتو سيظل غامضا، محكوما بتوازن معقد بين نصوص قانونية لا تمنح حماية صريحة، وسياسات إسبانية تسعى إلى فرض الأمر الواقع، وموقف مغربي رافض لا يمكن تجاوزه. إنها معادلة تجعل من مليلية نقطة التقاء بين القانون والسياسة والجغرافيا، حيث لا يكفي الخطاب الأطلسي لتغيير واقع ميداني، ولا تكفي المطالب التاريخية وحدها لتثبيت الحق. وبين هذا وذاك، يبقى مستقبل المنطقة مرهونا بقدرة الأطراف على إدارة الخلاف من دون أن يتحول إلى صدام مفتوح يهدد استقرار المتوسط بأسره.
كاتب وأكاديمي مغربي
الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة



