في محطة مفصلية من تاريخ الدبلوماسية المغربية، جاء قرار مجلس الأمن رقم 2797 ليكرّس من جديد المقاربة الواقعية التي تبناها المغرب في تسوية النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية. القرار الذي اعتمده المجلس بأغلبية واسعة، ودون أي اعتراض من الدول الدائمة العضوية، يعدّ تتويجًا لمسار خمسين سنة من الكفاح الدبلوماسي والسياسي بقيادة جلالة الملك محمد السادس، واستمرارًا للرؤية الاستراتيجية التي أرساها المغفور له الحسن الثاني منذ إطلاق المسيرة الخضراء سنة 1975.
من المسيرة إلى المبادرة: مسار متكامل من الرؤية والإرادة
منذ المسيرة الخضراء، شكّلت قضية الصحراء بالنسبة للمغاربة قضية وجود وليست مجرد خلاف حدودي. فالوحدة الترابية كانت دائمًا عنوانًا للوفاء بين العرش والشعب، وللرؤية البعيدة التي جعلت من الدفاع عن السيادة الوطنية واجبًا جماعيًا يلتف حوله كل المغاربة.
وفي سنة 2007، قدّم المغرب مبادرته الجريئة للحكم الذاتي، كحلّ سياسي واقعي ومتوازن يحظى بدعم متزايد من المجتمع الدولي. هذه المبادرة، التي وصفها مجلس الأمن مرارًا بـ“الجدّية وذات المصداقية”، مثّلت لحظة تحوّل في تعامل العالم مع الملف، إذ تحوّل المغرب من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة.
دبلوماسية الملك محمد السادس: الاتزان والفعالية
منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش سنة 1999، شهدت السياسة الخارجية للمملكة تحولًا نوعيًا قائمًا على الواقعية، والاتزان، والاستباقية. فقد اختار المغرب طريق الدبلوماسية الهادئة والمبنية على الشرعية الدولية، بعيدًا عن الشعارات والمزايدات.
وبفضل هذا النهج، تمكّن المغرب من بناء شبكة تحالفات دولية متينة، شملت الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة، ودولاً إفريقية وآسيوية عدة، جعلت صوته مسموعًا واحترامه راسخًا في المحافل الدولية. حتى الدول التي امتنعت عن التصويت مثل روسيا والصين، عبّرت عن حياد إيجابي يعكس تقديرها للموقف المغربي، وإدراكها بأن منطق السيادة والوحدة الترابية للمغرب لا يمكن تجاوزه.
قرار مجلس الأمن 2797: انتصار للدبلوماسية المغربية
لم يكن القرار الأممي الجديد مجرد تمديد تقني لبعثة “المينورسو”، بل اعترافًا صريحًا بمرجعية مبادرة الحكم الذاتي كإطار وحيد وواقعي لتسوية النزاع. فقد جاء القرار ثمرة تراكُم من النجاحات الدبلوماسية، كان آخرها الدعم المتواصل من الولايات المتحدة، التي اعترفت رسميًا بسيادة المغرب على صحرائه سنة 2020، وتأكيد فرنسا والمملكة المتحدة على ضرورة الانخراط في مقاربة واقعية ومستدامة.
كما أبرز القرار المكانة المتقدمة التي بات يحتلها المغرب كفاعل استراتيجي في إفريقيا والأطلسي، خاصة بعد إطلاق جلالة الملك لمبادرة الانفتاح الأطلسي الإفريقي، التي حولت الأقاليم الجنوبية إلى بوابة استراتيجية نحو العمق الإفريقي.
الخطاب الملكي: إعلان “فتح جديد”
في الخطاب الملكي التاريخي الذي ألقاه جلالة الملك محمد السادس عقب صدور القرار الأممي، افتتح جلالته كلماته بالآية الكريمة:
“إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا”،
ليعلن للعالم أن المغرب يعيش “فتحًا جديدًا” بعد خمسين سنة من الصبر والنضال. وقال جلالته:
“بعد خمسين سنة من التضحيات، نبدأ فتحًا جديدًا في الطي النهائي للنزاع المفتعل، على أساس الحكم الذاتي.”
وأضاف جلالته بتأكيدٍ تاريخي:
“نعيش مرحلة فاصلة ومنعطفًا حاسمًا في تاريخ المغرب الحديث، فهناك ما قبل 30 أكتوبر وما بعد 30 أكتوبر.”
بهذه العبارات القوية، وضع جلالته حدًّا لمرحلة طويلة من الترقب، ليؤكد أن المغرب يدخل مرحلة البناء النهائي لمغربية الصحراء، من خلال تعزيز التنمية في الأقاليم الجنوبية، وتكريس الجهوية المتقدمة، وتوسيع الشراكات الإفريقية والأطلسية.
خمسون سنة من النضال: من الدفاع إلى الريادة
ما تحقق اليوم هو ثمرة لتاريخ طويل من النضال، قاده المغاربة بقيادة ملوكهم، من المسيرة الخضراء سنة 1975، إلى مبادرة الحكم الذاتي سنة 2007، وصولًا إلى قرار مجلس الأمن سنة 2025.
في كل مرحلة، كان المغرب يثبت أنه لا يملك فقط شرعية الأرض، بل أيضًا شرعية الرؤية والبُعد الاستراتيجي. ومع هذا القرار، لم يعد المغرب في موقع التوضيح أو الدفاع، بل أصبح في موقع القوة الإقليمية التي تملي مقاربتها الواقعية وتحظى بثقة المجتمع الدولي.
المستقبل: بناء مغرب الجهات والأطلس الإفريقي
المغرب اليوم على أعتاب مرحلة جديدة عنوانها الريادة الإقليمية والتمكين الإفريقي. فبعد أن انتصر المسار الدبلوماسي، يأتي الدور على التنمية والبناء الميداني في الأقاليم الجنوبية، التي أصبحت نموذجًا للاندماج الاقتصادي والاجتماعي. كما أن الانفتاح الأطلسي الذي دعا إليه جلالة الملك سيجعل من المغرب منصة للتعاون جنوب–جنوب، وجسرًا بين إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
فتح مبين ومسار متجدد
إن ما تحقق يوم 30 أكتوبر 2025 هو فتح دبلوماسي مبين بامتياز، تتويج لمسيرة نضالية يقودها ملك حكيم وشعب مخلص. إنه انتصار للثبات والعقل، ورسالة إلى العالم بأن المغرب حين يؤمن بعدالة قضيته، فإنه لا يتراجع، بل يواصل بثقة نحو المستقبل.
لقد بدأت مرحلة جديدة من التاريخ المغربي — مرحلة البناء والريادة، تحت راية واحدة، هي الصحراء مغربية إلى الأبد.
رئيس الشبكة الوطنية للمجالس المحلية للشباب
نضال بنعلي


