من بورقيبة الذي جرّ إسرائيل إلى مجلس الأمن إلى قيس سعيّد الذي غطّى على مسيّرات سيدي بوسعيد.. هل صار التستّر بديلا عن حماية السيادة في تونس؟

admin11 سبتمبر 2025آخر تحديث :
من بورقيبة الذي جرّ إسرائيل إلى مجلس الأمن إلى قيس سعيّد الذي غطّى على مسيّرات سيدي بوسعيد.. هل صار التستّر بديلا عن حماية السيادة في تونس؟


ضُرِبت تونس مرّة أخرى وأصبع الاتهام موجه صوب تل أبيب، فيما لم يكن الاعتداء على قوارب “أسطول الصمود” الراسية بميناء سيدي بوسعيد في شتنبر 2025 سوى إعادة استحضار لذاكرة دامية لا ينساها التونسيون، وهي قصف حمام الشط عام 1985، حين أغارت طائرات إسرائيلية على مقرّ منظمة التحرير الفلسطينية وأسقطت عشرات القتلى والجرحى.

في ذلك الوقت، كان المشهد واضحا، إذ سارعت إسرائيل إلى الاعتراف بالعملية، وردّت تونس بخطاب قوي وصريح عبر عنه رئيسها الحبيب بورقيبة مغالبا مرضه حينها، جعل مجلس الأمن الدولي يصدر القرار 573 الذي أدان العدوان واعتبره انتهاكا سافرا لسيادة دولة بعيدة عن مسرح الصراع، ويومها لم يكن هناك تردّد في تسمية الفاعل ولا في تحويل الضربة إلى قضية أممية موثقة كما يحدث اليوم في عهد سعيّد.

وبينما عرض المنظمون تسجيلات مصورة لبقايا مسيّرات قالوا إنها استُعملت في الاعتداء على قواربهم، أعلنت وزارة الداخلية التونسية في البداية أنها لم ترصد أي طائرات مسيّرة، مرجّحة أن تكون الحرائق ناجمة عن أسباب عرضية بعد ذلك بيوم واحد تغيّر الخطاب الرسمي ليصف ما وقع بـ”اعتداء مُدبّر”، مع إعلان فتح تحقيق قضائي لكن من دون تسمية أي جهة مسؤولة.

هذا التدرج من النفي إلى الاعتراف الغامض أثار موجة من التساؤلات والانتقادات، إذ بدا وكأن الدولة وعلى رأسها رئيس الجمهورية قيس سعيّد، تُفضّل ترك الملف عالقا في المنطقة الرمادية بدلا من خوض مواجهة سياسية مباشرة، وهنا يكمن جوهر السؤال المشروع: كيف لرئيس يرفع شعار السيادة في كل خطاب أن يتعامل مع واقعة خطيرة بهذا القدر من الغموض؟ ولماذا يُستشعر وكأن الدولة تحاول دفن حقيقة مؤلمة أو إخفاء بصمات واضحة؟

اتهامات صريحة بدأت تتوجه إلى قصر قرطاج بأن التستر هو سياسة مقصودة، وأن الخطاب الموارب لم يكن سوى محاولة لتفادي الإحراج أمام إسرائيل أو شركائها الغربيين، ولو على حساب دماء التونسيين وكرامتهم الوطنية.

وتدفع الأحداث الواقعة في الأيام القليلة الماضية الذاكرة إلى استحضار فجر الأول من أكتوبر 1985، عندما استيقظت تونس على واحدة من أعنف الضربات العسكرية التي تعرضت لها خارج سياقاتها الداخلية، حين شنّ سلاح الجو الإسرائيلي غارة جوية بعيدة المدى على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في ضاحية حمام الشط جنوب العاصمة.

الغارة التي نفذتها مقاتلات من طراز F-15 أسفرت عن عشرات الضحايا، تتراوح التقديرات بين 47 و71 قتيلا، إضافة إلى أكثر من مائة جريح من فلسطينيين وتونسيين ولم تكتف إسرائيل بالفعل العسكري، بل سارعت إلى الاعتراف به علنا، في سابقة جعلت الدولة المعتدى عليها أمام وقائع واضحة المعالم.

وهنا، وجد الحبيب بورقيبة نفسه أمام امتحان سيادي قاسٍ، لكنه تعامل معه بوضوح رجل دولة يعرف كيف يحوّل الكارثة إلى فرصة لإبراز حضور تونس في الساحة الدولية ولم يتردّد في إدانة الاعتداء، كما لم يبحث عن أعذار تقنية أو ذرائع أمنية، بل استثمر الاعتراف الإسرائيلي العلني بالعملية ليذهب مباشرة إلى مجلس الأمن، حيث انتزع قرارا أمميا صريحا تحت رقم (573) أدان إسرائيل، واعتبر ما وقع انتهاكا سافرا لسيادة تونس، وأقر بحقها في التعويض.

وكان بورقيبة، رغم مرضه وضعف وضعه الداخلي آنذاك، مدركا أنّ قوة الدولة تقاس بقدرتها على تحويل الاعتداء عليها إلى مكسب سياسي ودبلوماسي، وأنّ السيادة ليست شعارا يُرفع في الخطابات، بل ممارسة عملية تتجسد في المحافل الدولية وخطابه كان حادا ودبلوماسيته فاعلة، وصورته أمام الرأي العام التونسي والعربي والدولي بدت متماسكة، قادرة على تحويل الألم إلى رصيد رمزي يعزز مكانة البلاد.

بعد أربعة عقود تقريبا، وجدت تونس نفسها في شتنبر 2025 أمام واقعة مختلفة في الشكل لكنها تحمل نفس الرمزية السيادية، حين تعرّض قارب من أسطول الصمود العالمي الراسي في ميناء سيدي بوسعيد لهجوم بمسيّرة مجهولة المصدر، تبعته بعد 24 ساعة حادثة مماثلة على قارب آخر وقد المنظمون مقاطع فيديو وأظهروا بقايا لجهاز محترق، مؤكدين أن ما حدث هو ضربة عسكرية مُدبّرة تهدف إلى إفشال انطلاقة الأسطول المتجه إلى غزة لكن وزارة الداخلية التونسية سارعت بعد ساعات، إلى نفي رصد أي مسيّرات في الأجواء، وقدمت رواية بديلة تتحدث عن حريق ناجم عن سترة نجاة أو سيجارة.

أمام هذا التباين، بدا أن السلطات اختارت في البداية مسار التهدئة والتقليل من شأن الواقعة، لتعود في اليوم التالي بنبرة أشد تصف ما جرى بأنه “اعتداء مُدبّر” وتعلن فتح تحقيق، لكن من دون أن تجرؤ على تسمية أي طرف مسؤول أو اتهام مباشر وبينما واصلت المنظمات الدولية وصف الحادثة بأنها انتهاك للسيادة التونسية، بقي الخطاب الرسمي مترددا، يمزج بين لغة السيادة الصارمة وإجراءات تقنية حذرة.

وهكذا، فإن قيس سعيّد، واجه واقعة سيدي بوسعيد في 2025 بارتباك كشف هشاشة خطابه السياسي، وهذا التردد لم يكن مجرد اختلاف في الأسلوب، بل تجلٍ لضعف في ممارسة السلطة نفسها، إذ فضّل الرئيس ترك الواقعة عالقة في منطقة رمادية خوفاً من مواجهة سياسية مباشرة مع إسرائيل أو أي طرف آخر قد يكون متورطا. والنتيجة أن الخطاب السيادي الذي يرفعه سعيّد في كل مناسبة فقد مصداقيته في أول اختبار جدي، فبدلا من أن يكون حارسا للسيادة تحوّل إلى مناور يتستر ويُعمّي.

ولقد أظهر قيس سعيّد أن الشعار الذي يردّده عن “الدولة القوية” لا يصمد أمام واقعة عملية، وأنّ ضعف الموقف الرسمي لم يقتصر على غياب الرد الدبلوماسي، بل شمل عجزا عن إقناع الداخل والخارج بأن تونس قادرة على حماية رمزيتها الوطنية، وهنا يتضح التحول من بورقيبة الذي جسّد السيادة بخطاب صلب ودبلوماسية نشطة، إلى رئيس يرفع الشعارات ولا يترجمها، ويكشف في لحظة مفصلية عن وهن الدولة في زمن المسيّرات والاعتداءات الغامضة.

من جهة ثانية، فإن الفارق بين 1985 و2025 يبرز بجلاء حجم التحول في البيئة الأمنية والسياسية، ففي حمام الشط، كان الفعل الإسرائيلي مباشرا ومكشوفا، ما منح تونس شرعية قوية للتوجه إلى الأمم المتحدة وحشد الدعم العربي والدولي، أما في سيدي بوسعيد، فإن الغموض الذي يحيط باستخدام المسيّرات جعل الدولة التونسية أمام “منطقة رمادية” أداة منخفضة الكلفة سهلة الإنكار، وهدفها إرباك مبادرة رمزية أكثر من إحداث خسائر عسكرية.

وهذا الغموض ساعد قيس سعيّد على التلاعب بالخطاب، فهو من جهة لا يريد إنكار السيادة، ومن جهة أخرى يحرص على عدم التورط في مواجهة سياسية مباشرة مع إسرائيل أو غيرها من الأطراف التي قد تتورط في ضرب الأسطول، خصوصاً وأن التحقيقات التقنية يمكن أن تبقى مفتوحة إلى ما لا نهاية.

والنقد الموجه لقيس سعيّد هنا لا يتعلق فقط بمضمون الموقف، بل بطريقة إدارة الأزمة فبينما كان متوقعا من رئيس جمهورية يرفع شعار “السيادة فوق كل اعتبار” أن يعلن بوضوح رفضه لأي انتهاك محتمل، وأن يضغط على المؤسسات الأمنية والدبلوماسية لجمع الأدلة وتسمية المعتدي، فضل سعيّد لغة مائعة تتراوح بين النفي والتلميح، وتترك الرأي العام التونسي والعالمي في حالة شك دائم.

والنتيجة أن الحدث فقد الكثير من زخمه السياسي لصالح جدل تقني حول ما إذا كانت هناك مسيّرات في الجو أم لا، في وقت كان يفترض أن تتحول الحادثة إلى ورقة ضغط دولية لتجريم أي استهداف للأراضي التونسية. هنا يظهر التحول العميق من دولة قادرة سنة 1985 على انتزاع قرار أممي صريح يدين إسرائيل، إلى دولة في 2025 تبدو عاجزة عن تجاوز مرحلة “فتح تحقيق” لا أحد يعرف متى يغلق ولا ماذا سيثبت.

وفي العمق، إدارة سعيّد تعكس أزمة أوسع في السياسة التونسية المعاصرة والتي تتجلى أساسا في الخوف من تحميل المسؤولية واللجوء إلى خطاب سيادي شعاراتي يُستخدم داخليا من دون ترجمة عملية في الميدان الدولي

والأسطول التضامني مع غزة مثّل لحظة رمزية استثنائية، بمشاركة شخصيات دولية معروفة من أكثر من أربعين دولة، لكنه وضع الدولة أمام امتحان مزدوج حراسة الضيوف ومرافقة المبادرة، وفي الآن نفسه ضمان عدم الانجرار إلى مواجهة لا تملك تونس أدواتها وفي غياب رؤية واضحة، تحولت الأزمة إلى مثال جديد على سياسة إدارة الوقت لا إدارة السيادة، حيث بقيت المسؤولية معلقة والتحقيقات مفتوحة، واللغة الرسمية تزداد صلابة لفظية كلما قلّت قدرتها على تسمية الفاعل.

وتعد المقارنة بين حمام الشط وسيدي بوسعيد مرآة تكشف كيف تراجع موقع تونس في معادلات الإقليم والدبلوماسية الدولية ففي حين تحوّل الاعتداء الإسرائيلي سنة 1985 إلى قضية أممية مسجلة بقرار مجلس الأمن، فإن حوادث شتنبر 2025 لم تتجاوز عناوين الإعلام، وبقيت ضبابية بفضل إدارة مرتبكة وقيادة سياسية تمارس الانتقائية في خطابها السيادي.

وهكذا يتضح أن قيس سعيّد، الذي يرفع شعار حماية السيادة، فشل في استثمار حادثة كان يمكن أن تمنح تونس موقعا متقدما في النقاش الدولي حول استخدام المسيّرات والاعتداءات غير المعلنة، وبينما استثمرت السلطة في لغة حادة حول “الاعتداء المدبّر”، ظلت عاجزة عن إرفاقها بالحد الأدنى من الوضوح والجرأة السياسية التي تستوجبها مواجهة تهديد مباشر على التراب الوطني.



Source link

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة