العدالة كإرادة الأقوياء.. نسبية القيم في ساحة الهيمنة والسيطرة – الصحيفة

admin17 سبتمبر 2025آخر تحديث :
العدالة كإرادة الأقوياء.. نسبية القيم في ساحة الهيمنة والسيطرة – الصحيفة


المقدمة: القوة كصاحبة القلم الأول

التاريخ لم يكن يومًا سردًا محايدًا لأحداث مرت وانقضت، بل هو قصة تُروى بقلم من يملك القوة، وتُعاش بإرادة من يسيطر على المشهد. منذ فجر الحضارات، كان المنتصر وحده هو من يقرر من يُسمى بطلاً، ومن يُلصق به تهمة الشرير، ومن يُنسى في ظلال التاريخ. هذه المفارقة الأخلاقية لا تنحصر في الماضي، بل تظل قائمة اليوم، في زمنٍ تتداخل فيه السياسة والإعلام، وتصبح العدالة مرآة تنعكس فيها صورة الأقوى فقط. فالأسئلة التي تطرحها هذه المفارقة تعمق مفهوم العدالة والقيم: هل هي حقائق مطلقة؟ أم مجرد أدوار يلعبها المنتصرون في مسرح السلطة؟

الفصل الأول: التاريخ كأداة للهيمنة – بين الواقع والميتافيزقا

التاريخ ليس مجرد سرد موضوعي لوقائع مضت، بل هو بناء معقد تتشابك فيه الحقيقة والسلطة، وتُشيد فيه ناطحات السرد التي تبرر وجود الأقوياء وتشرعن سلطتهم. من منظور فلسفي، التاريخ هو في جوهره “إرادة القوة” كما عبّر عنها نيتشه؛ حيث لا توجد “حقائق” مطلقة، بل هي تبني يعكس رغبة الأقوياء في فرض رؤيتهم على العالم. ليست الصراعات المادية وحدها من تحسم التاريخ، بل الصراعات الرمزية التي تتحكم في الذاكرة الجماعية، والتي تُكتب بنصف الحقيقة أو بالتحريف المقصود.

عندما ننظر إلى الإمبراطوريات التي حكمت التاريخ، من روما إلى الإمبراطورية العثمانية ثم الاستعمار الأوروبي، نكتشف أن التاريخ الذي نقرأه اليوم ما هو إلا مرآة انتصاراتها وبراهين شرعيتها، أما المجازر والفظائع التي ارتكبتها فلا تجد إلا هامشًا هامدًا أو صمتًا مشتركًا. فمثلاً، كتب المستعمرون البريطانيون والفرنسيون تاريخ إفريقيا والهند بطريقة تُصوّر هذه الشعوب على أنها “تاريخ تحضير شعوب متخلفة”، متجاهلين حضارات عريقة كانت رائدة في مجالات متعددة، مثل مملكة مالي العظيمة، حضارة المايا، وزنوجة الكونغو، التي تم محوها أو تهميشها ضمن الرواية الرسمية. وفي أمريكا، تم تهميش إبادة السكان الأصليين (الهنود الحمر) لأكثر من قرن، بينما تم تمجيد المستوطنين الأوروبيين الذين قضوا على هذه الشعوب وأرضهم كأبطال مؤسسين لتاريخ أمريكا الحديث.

هذا الصمت ليس فراغًا، بل هو فضاء استراتيجي تستخدمه القوى لتسويغ هيمنتها، وحجب أصوات المقهورين. ففي سياقنا المعاصر، نرى هذه الظاهرة تتكرر بأدوات أكثر تعقيدًا، كما في الحرب على غزة، حيث تُصنف المقاومة الفلسطينية في الإعلام الغربي على أنها “إرهاب”، بينما تبرر إسرائيل قتل المدنيين، بمن فيهم الأطفال، تحت مسمى “الدفاع عن النفس”. ووفقًا لتقرير اليونيسف، قتلت إسرائيل أكثر من 15,000 طفل فلسطيني منذ عام 2000، ومع ذلك لم تُعتبر هذه الجرائم “جرائم حرب” في الخطاب الدولي، بينما تُصنف أي هجمات فلسطينية فورًا كأعمال إرهابية. هذا التمييز في الرواية الرسمية يعكس استمرار الهيمنة على الحقيقة وتزويرها بما يخدم مصالح القوى الكبرى والدول العظمى.

الفلسفة تحذرنا من هذا الخطاب الأحادي؛ فالتاريخ “ليس ماضيًا مجردًا”، بل هو “حاضرٌ نُعاد كتابته” وفق مصالح القوى الحاكمة. هذه إعادة الكتابة ليست بالضرورة كذبًا صارخًا، لكنها اختيار انتقائي للمعلومات، وتوظيف للغة يستهدف تشكيل وعي جماعي معين، يبرر وجود الأقوى ويهمش الآخر.

بالتالي، يمكننا القول إن التاريخ، كما تُروى لهؤلاء الأقوياء، هو نتاج “العنف الرمزي” كما سماه الفيلسوف بيير بورديو: عنف لا يمارس عبر القوة البدنية فقط، بل عبر التحكم في المعرفة واللغة والأطر التي تُحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض. هذه السيطرة على السرد ليست فقط لتبرير الماضي، بل لتشكيل المستقبل، حيث يُحاك الواقع من جديد وفق مصالح من يملكون أدوات القوة الاقتصادية والسياسية والإعلامية.

في النهاية، هذه المفارقة التي تجعل من التاريخ أداة للهيمنة تضعنا أمام مسؤولية نقدية: أن نطرح تساؤلاتنا حول من يكتب التاريخ؟ وكيف؟ ولماذا؟ وأن نعيد الاعتبار لصوت المقهورين، لأن التاريخ الحقيقي لا يُكتب إلا عندما يُسمع الجميع، وليس فقط الأقوياء.

الفصل الثاني: العدالة انتقائية.. عندما يصبح القانون أداة للقوي

في نظر الفلاسفة السياسيين، لا توجد عدالة مجردة مستقلة عن السلطة؛ فالعدالة هي في جوهرها انعكاس لموازين القوة، ليست قيمة مطلقة بل “مشروع قوة” يصوغها الأقوياء لتثبيت سلطتهم. فكما كتب ميشيل فوكو، القانون والسلطة ليسا منفصلين، بل يتشابكان في شبكة معقدة تُنتج الحقيقة وتفرضها.

في عالمنا المعاصر، تتجلى هذه المفارقة بوضوح صارخ: العدالة الدولية التي يُفترض أن تكون فوق كل اعتبار، تتحول إلى أداة سياسية تُستخدم ضد الضعفاء، بينما تُمنح الأقوياء حصانة شبه مطلقة. الحرب على غزة نموذج صارخ: يتحدث الإعلام الدولي عن “حق الدفاع عن النفس” كمبرر لا يُمس، في حين تغيب المحاسبة عن أبشع الجرائم التي تُرتكب بحق المدنيين الأبرياء. قادة بعض الدول يُحاكمون على جرائم ارتكبوها، لكن في الوقت ذاته، يُغلق الملف عن جرائم أخرى تُرتكب تحت رعاية أو تواطؤ الدول الكبرى.

لكن العدالة الانتقائية ليست محصورة بالصراعات المسلحة، بل تمتد إلى الديمقراطيات نفسها، حيث يظهر القناع الحقيقي لنظام “القانون فوق الجميع”. في دول تدعي حرية التعبير والديمقراطية، يُسجن الناشطون والطلاب الذين يطالبون بالحقوق الأساسية أو ينتقدون سياسات السلطة، بحجج واهية مثل “تهديد الأمن الوطني” أو “إثارة الفوضى”. يتعرض المحتجون السلميون إلى القمع والاعتقال التعسفي، بينما تُغلق أعين القضاء عن تجاوزات الشرطة وانتهاكات حقوق الإنسان.

هذه الحالة تبرهن على أن القانون، بدلًا من أن يكون سلاحًا للعدالة والمساواة، يصبح أداة لتعزيز هيمنة الأقوياء وإسكات الأصوات المعارضة. العدالة ليست هي العدالة، بل هي “عدالة السلطة”، حيث يتم تدوير القوانين وتفسيرها وفقًا لمصلحة الحاكم لا المواطن.

إن هذا الواقع يعيد طرح تساؤل الفيلسوف الألماني كارل ماركس: “ما هي العدالة في عالم مُقسّم إلى طبقات اجتماعية؟” فبينما يقال إن العدالة هي حماية الحقوق، فإن الواقع يثبت أن الحقوق تُنتزع من الضعفاء يوميًا باسم القانون نفسه.

في النهاية، هذه الانتقائية في تطبيق القانون تكشف الوجه الحقيقي للمفارقة الأخلاقية التي نعيشها: القانون الذي يُفترض أن يكون درعًا يحمي الإنسان، يصبح سيفًا يُسلط على من لا يملكون قوة، بينما تُرتكب أبشع الجرائم تحت حماية القانون والأعراف الدولية.

وهنا يبرز السؤال: كيف يمكن تحقيق عدالة حقيقية في نظام يُصاغ ويُطبق حسب مصالح الأقوياء؟ وكيف يمكن للضعفاء أن يجدوا صوتًا وسط صخب المصالح والسياسات؟

الفصل الثالث: القيم والمبادئ.. صناعة القوي

 في العمق الفلسفي، القيم ليست حقائق ثابتة ومستقلة عن التاريخ والسياسة، بل أدوات تُكوّن وتُعاد صياغتها من قِبل من يملك القوة. القيم والمبادئ ليست عصيّة على التغيير أو التفاوض، بل تُصنع في معامل السلطة، وتُعاد صياغتها لخدمة مصالح من يسيطرون على المشهد السياسي والثقافي. كلما ازدادت قوة جهة ما، تمكنت من فرض رؤيتها لما هو “صحيح” و”مقبول”، وتحويل ذلك إلى قيم يُفترض أنها عالمية وثابتة.

في واقعنا المعاصر، نشهد هذه الظاهرة بوضوح فاضح، حيث تتحول القيم الإنسانية إلى أدوات سياسية مزدوجة تُستخدم بحسب السياق والمصلحة. على سبيل المثال، حق تقرير المصير يُطالب به بحماس لأوكرانيا وتايوان، في حين يُنكر هذا الحق تمامًا على فلسطين والصحراء الغربية، في مثال صارخ على ازدواجية المعايير.

وبالنسبة لحرية التعبير، ففي الغرب يُسجن من ينكر الهولوكوست، وهو أمر مبرر لحماية ذاكرة ضحايا المحرقة، لكن في المقابل يُسمح بحرية إهانة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) تحت ذريعة “الحرية”، مما يوضح التفاوت في تطبيق نفس القيم بحسب المصلحة الثقافية والسياسية.

حتى في ميادين بعيدة عن السياسة المباشرة، مثل الرياضة، تظهر هذه التناقضات. عندما انتقد لاعبو كرة القدم العالميون، مثل ميسي ونيمار، الحرب على غزة، تعرضوا لضغوط إعلامية كبيرة، بينما يُشجع الإعلام الغربي علنًا دعم إسرائيل، مما يكشف كيف تُستخدم القيم لتثبيت سرد موحد يخدم طرفًا دون آخر.

وعندما نتحدث عن حقوق الإنسان، نرى ازدواجية مفضوحة أخرى: الغرب يفرض عقوبات على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، لكنه في الوقت نفسه يبيع الأسلحة لإسرائيل التي تستخدمها في قتل الفلسطينيين. هذا التناقض لا يعكس حرصًا على القيم الإنسانية، بل هو حسابات استراتيجية ومصالح جيوسياسية تُعلو فوق المبادئ.

هذه الأمثلة ليست حالات معزولة، بل تعبيرات واضحة عن كيف تُصنع القيم وتتبدل لتخدم منطق الهيمنة. القيم التي يفترض أنها عالمية وثابتة تتحول إلى أدوات سياسية متغيرة بحسب من يملك القوة، فتُبرر العدوان والاحتلال باسم الأمن، ويُعتبر الاحتجاج “تمردًا” و”إرهابًا”، بينما يُصنف القاتل “حامي النظام” و”صانع السلام”.

وهنا تكمن المفارقة المزعجة: القيم التي نُفترض أنها كونية ليست سوى مرآة تعكس سيطرة الأقوياء، ولا صوت للضعفاء في صياغتها. هذه الحقيقة تدعونا لإعادة التفكير بعمق في ماهية العدالة والحرية، والسعي نحو فضاءات جديدة لكتابة القيم من منظور إنساني حيّ، لا من منطلق سلطة وقوة فقط.

في نهاية المطاف، تبقى القيم والمبادئ محمية بأيدي من يملك القوة، لكنها ليست مسجلة على الحجر. التاريخ يثبت أن القيم يمكن أن تتغير، وأن صوت الضعفاء قد يُسمع مهما حاول الأقوياء إسكاتهم. فبين صناعة القيم وصراع الأفراد من أجل حقهم، تدور رحى الصراع الأبدي على الحقيقة والعدالة.

الخاتمة: هل من أمل في كسر هذه المفارقة؟

رغم هيمنة الأقوياء على القلم الذي يكتب التاريخ، ورواياتهم التي تصنع العدالة حسب مصالحهم، فإن الحقيقة لا تموت. مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتنامي وعي الشعوب، بات من الصعب إخفاء المظالم والجرائم. ثورات المحتجين، وصمود المظلومين، وتضامن الضمائر الحية حول العالم تثبت أن الرواية الرسمية ليست حكراً على المنتصرين. ربما سيأتي اليوم الذي تُكتب فيه صفحات التاريخ بأقلام من تحملوا المعاناة، لا بأيدي الجلادين، حينها فقط تتغير المعادلة وتنتصر العدالة الحقيقية. حتى ذلك الحين، تبقى المفارقة الأخلاقية قائمة، لكنها محفوفة بالأمل بأن الحقيقة ستجد طريقها، مهما طال الزمن.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة



Source link

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة