تفادى الملك محمد السادس، في خطابه أمام مجلسي البرلمان يوم أمس الجمعة، بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية، إعفاء الحكومة من مهامها بأي صيغة من الصيغ التي كانت مطروحة على طاولة النقاش خلال الأسبوعين الماضيين، في ظل حراك احتجاجي ذي مطالب اجتماعية، حمَّلها المسؤولية مباشرةً ودعا إلى “إقالتها”، إذ اختار العاهل المغربي عدم الخروج عن صلاحياته الدستورية المحددة منذ 2011.
وقرر الملك الإبقاء على صلاحياته في حدودها الدستورية، على اعتبار أن “إقالة” الحكومة، رغم كونها مطلبًا واضحا للشارع، لدرجة أن مجموعة “جيل زِد” التي تُحرك الاحتجاجات، وضَعَتها في صدارة مطالبها المرفوعة للقصر، إلا أن لا نصَّ في الدستور الحالي يدعمها، في ظل “تقييد” سلطات رئيس الدولة، بشكل يبدو وكأنه مرحلةٌ انتقالية نحو المرور إلى “الملكية البرلمانية” مستقبلا.
وهذه الصيغة، رغم الأصوات الخافتة التي تتحدث عنها، ليست أمرا جديدا، بل جرى الإعلان عنها بشكل علني قبل أكثر من ست سنوات، عبر المؤسسة الملكية نفسها، إذ يُذكِّر توجه الملك الذي عبر عنه خطابُ أمس بخرجتين إعلاميتين نادرتين، في وقت واحد، لمستشاري العاهل المغربي، عمر عزيمان وعبد اللطيف المنوني، الذين أكدا معا أن الملكية البرلمانية هي الخيار المستقبلي لنظام الحُكم في المغرب.
الأمر يستدعي العودة إلى حوار المستشارين الملكيين مع وكالة الأنباء الفرنسية AFP في نهاية يوليوز 2019، تزامنا مع الاحتفال بالذكرى العشرين لجلوس الملك محمد السادس على العرش، وحينها واجها سؤالا مباشرا “هل من الممكن تصوُّر ملكيةٍ في المغرب على النمط الأوروبي”؟.
عزيمان، وهو وزير سابق لحقوق الإنسان ثم للعدل، والذي كان أيضا سفيرا للمغرب لدى إسبانيا لأكثر من 5 سنوات، الدولة ذات الملكية البرلمانية، بدا حذرا في جوابه، حين قال إن نظام الحكم في المغرب “لا يشبه الملكية الإسبانية أو الهولندية، حيث يسود الملك ولا يحكم”، مردفا “إنه نظام ملكي من نوع آخر، لكن سلطات الملك محددة”.
وهذه السلطات “المحددة” على حد تعبير عزيمان، والتي حددها دستور 2011 المُعتمد بعد حراك أكثر تعقيدا وتنظيما من احتجاجات 2025، هي “القيود” القانونية التي تحول دون قيام الملك بإقالة الحكومة رغم مطالب الشارع المُلحة، فالفصل 47 الذي يخوله تعيين رئيس الحكومة، هو ذاته الذي يفرض عليه اختياره “من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها”، وهو أيضا الذي يجعل سُقوط الحكومة رهينا بـ”استقالة” رئيسها، لا بـ”إقالته” من طرف العاهل المغربي.
الوثيقة الدستورية نفسها حولت مسألة “إسقاط” الحكومة، إلى آلية بين يدي البرلمان، عن طريق سحب الثقة، في المادة 103، والتي تنص على ما يلي “يؤدي سحب الثقة إلى استقالة الحكومة استقالة جماعية”، ثم عبر ملتمس الرقابة في الفصل 105، الذي يقول الآتي “تؤدي الموافقة على ملتمس الرقابة إلى استقالة الحكومة استقالة جماعية”، وهذا الرابط التلقائي ليس مطروحا بالنسبة للملك حتى عند حل البرلمان، الذي يدخل ضمن صلاحياته وفق الفصل 51.
“التزام” القصر بمضمون الدستور بشكل كامل، كان “مفاجئا” للكثيرين استنادا إلى سقف التوقعات المُرتفع في ظل الاحتجاجات الأكبر بالمغرب منذ نحو عقد ونصف من الزمن، لكنه قد يمثل اجتيازا لاختيار صعب أمام المؤسسة الملكية، التي رفضت في نهاية المطاف “استعادة” صلاحيات كانت مخولة لها بالفعل في الدساتير السابقة، بما في ذلك دستور سنة 1996.
وهذا يقودنا إلى جواب المستشار الملكي عبد اللطيف المنوني لوكالة الأنباء الفرنسية، إذ عكس عزيمان، فإن الفقيه الدستوري الذي كان أستاذا للملك محمد السادس، والذي ترأس لجنة صياغة الدستور الحالي، تكلم دون تحفظ قائلا “نحن على طريق ملكيةٍ برلمانية”، مضيفا “لكن بطبيعة الحال لا زالت هناك بعض المقتضيات التي ربما يجب تجويدها”.
وطيلة 14 عاما من العمل بالوثيقة الدستورية الحالية، لم تُتح للمؤسسة الملكية فرصة سانحة لـ”استعادة” سلطة حل الحكومة مثل ما حدث الآن، إذ حتى في مارس 2017 حين أبعد الملك عبد الإله بن كيران عن رئاسة الحكومة، كان ذلك باعتباره “رئيسَ حكومةٍ مكلف” بعدما انتهت ولايته الانتدابية إثر الانتخابات التشريعية، وكان ذلك بصيغة “الإعفاء” لا “الإقالة”، إلا أنه في اللحظة الراهنة اختار وضع الكرة في ملعب المواطنين، الذين تفصلهم أقل من سنة على الاستحقاقات البرلمانية، ليكون مجلس النواب بذلك هو صاحب الكلمة الأخيرة في اختيار من سيخلف عزيز أخنوش وحزبه وأغلبيته.



