التوتر الداخلي في الجزائر وصراع أجنحة السلطة بعد اختفاء مدير الأمن – الصحيفة

admin19 أكتوبر 2025آخر تحديث :
التوتر الداخلي في الجزائر وصراع أجنحة السلطة بعد اختفاء مدير الأمن – الصحيفة


منذ مطلع عام 2025 تعيش الجزائر على إيقاع توتر داخلي غير مسبوق كشف هشاشة التوازنات داخل النظام السياسي الذي ظل طويلا يتكئ على واجهة مدنية تخفي خلفها سلطة عسكرية أمنية متجذرة. فبعد خمس سنوات من حكم الرئيس عبد المجيد تبون بدا واضحا أن مشروع إعادة هيكلة مؤسسات الدولة لم ينجح في بناء انسجام فعلي بين الرئاسة والأجهزة السيادية. فكل تعديل في هرم المخابرات أو قيادة الجيش كان يبرز صراعا خفيا بين أجنحة تتنافس على تأمين مواقعها داخل نظام لم يحدد بعد من يمتلك القرار الاستراتيجي النهائي.

لقد مثل تفكيك جهاز المخابرات القديم المعروف بـ DRS سنة 2016 محاولة لإعادة ضبط العلاقة بين الجيش والأمن والرئاسة، غير أن نتائجها ظلت محدودة. إذ سرعان ما ولدت أجهزة جديدة متنافسة أكثر منها متكاملة، وأصبح المشهد الأمني أكثر تعقيدا. ومع انتخاب تبون في نهاية 2019 حاول إحياء توازن جديد يضمن للرئاسة سلطة القرار دون الاصطدام المباشر بالمؤسسة العسكرية. غير أن الوقائع الميدانية أظهرت أن سلطة الأمن لم تتراجع فعليا، بل أعادت إنتاج نفسها بصيغ متعددة تجمع بين الرقابة السياسية والضبط الاقتصادي والإعلامي. وجاءت التغييرات المتكررة في قيادة الأجهزة الأمنية، بما في ذلك المديرية العامة للأمن الداخلي، لتؤكد أن الأزمة ليست مؤسساتية فحسب، بل هي بنيوية في مركز القرار ذاته.

فخلف خطاب الإصلاح ومحاربة الفساد استمرت الصراعات الصامتة بين جناح الرئاسة وجناح الجيش وأجهزة المخابرات القديمة. وظلت القاعدة غير المعلنة للنظام تقوم على توزيع الولاءات بشكل يضمن التوازن دون أن يسمح بقيام سلطة مدنية حقيقية. هذه البنية المغلقة هي التي هيأت المناخ لانفجار أزمة سبتمبر 2025 حين اختفى مدير الأمن الداخلي في ظروف غامضة. غير أن جذور الحدث تعود إلى إعادة هندسة المنظومة الأمنية بعد حراك 2019، حين ظلت الدولة تبحث عن توازن هش بين مطلب الشرعية الشعبية وحسابات القوة داخل مراكز القرار.

أولا، صدمة الاختفاء وأبعاده السياسية والأمنية:

أحدث اختفاء مدير الأمن الداخلي عبد القادر حداد، المعروف بلقب ناصر الجن، في سبتمبر 2025 صدمة عنيفة داخل مؤسسات الدولة الجزائرية، إذ وقع في لحظة كانت فيها السلطة تحاول إظهار انسجامها بعد تغييرات متكررة في قيادة الأجهزة السيادية. كان الجن أحد أبرز وجوه الأمن في عهد تبون، وارتبط اسمه بإدارة ملفات حساسة تتعلق بمكافحة التجسس الداخلي وتتبع نشاطات المعارضة السياسية. لكن اختفاءه المفاجئ من مقر إقامته الجبرية بعد عزله بأسابيع قليلة أثار تساؤلات حادة حول من يملك القرار الفعلي داخل الدولة، ومن يتحكم فعليا في مفاتيح أجهزتها الأمنية.

التزمت البيانات الرسمية الصمت، فيما تناقلت وسائل إعلام أجنبية، خاصة الفرنسية، روايات متضاربة تحدثت عن احتمال فرار الجن إلى الخارج بمساعدة جهات نافذة، أو عن تصفيته في سياق تصفية حسابات داخلية. أما الإعلام المحلي فالتزم بإعادة نشر البلاغات الرسمية دون تحقيق ميداني أو تحليل استقصائي، مما عمق لدى المواطنين شعورا بأن الدولة تواجه أزمة ثقة داخلية عميقة. واعتبر محللون أن الاختفاء ليس حادثا معزولا، بل مؤشر على انقسام السلطة بين جناح رئاسي يسعى لتركيز القرار، وجناح أمني عسكري يرفض فقدان امتيازاته التاريخية. وهكذا تحول ملف الجن إلى مرآة للصراع بين مراكز النفوذ القديمة والجديدة، وإلى اختبار حقيقي لقدرة النظام على ضبط توازناته دون الانزلاق إلى أساليب الإقصاء والتصفية.

ثانيا، صراع الأجنحة وموازين القوة داخل النظام:

تكشف أزمة اختفاء مدير الأمن الداخلي عن عمق الانقسام في هرم السلطة الجزائرية بين جناحين متقابلين. الجناح الأول يدور في فلك الرئاسة ويسعى إلى ترسيخ سلطة مدنية شكلية تحت مظلة الرئيس تبون، عبر سلسلة من التغييرات داخل أجهزة الأمن لتقليص نفوذ الجيش. أما الجناح الثاني فيمثله ضباط المخابرات والجيش القدامى الذين يرون في تحركات الرئاسة تهديدا لتوازن القوة التاريخي الذي ساد منذ الاستقلال. وقد تحول هذا التباين البنيوي إلى مصدر دائم للتوتر، يظهر كلما حاولت الرئاسة تجاوز الخطوط غير المكتوبة التي تحدد حدود سلطتها.

منذ حل جهاز DRS وإعادة توزيع الصلاحيات بين الأجهزة، ظلت العلاقة بين الجيش والرئاسة قائمة على معادلة دقيقة: حماية الاستقرار مقابل بقاء القرار الاستراتيجي في يد العسكر. غير أن حادثة ناصر الجن أخلت بهذه المعادلة، إذ ظهرت مؤشرات على تآكل الثقة بين القيادات، وتحدثت تقارير عن صراع داخلي بين ضباط كبار سعوا لإعادة رسم خريطة الولاءات. ويرى بعض المراقبين أن الرئاسة فقدت السيطرة على أجهزة ما زالت تعمل بعقلية الدولة العميقة، ما يجعل أي إصلاح مؤسسي حقيقي رهانا محفوفا بالمخاطر. في ظل هذا المشهد، تبدو الجزائر مقبلة على مرحلة يعاد فيها تشكيل موازين القوة من جديد، في غياب آليات تحكيم مدنية قادرة على الفصل بين أجنحة النظام المتصارعة.

ثالثا، تداعيات الأزمة على الاستقرار الداخلي والإقليمي:

أعادت أزمة اختفاء مدير الأمن الداخلي خلط الأوراق في المشهد السياسي والأمني الجزائري، وأثارت قلقا واسعا داخل الدولة وخارجها. داخليا تصاعدت حالة الريبة لدى المواطنين مع غياب أي توضيحات رسمية، بينما استغلت المعارضة الحدث للتشكيك في وحدة المنظومة الأمنية، مطالبة بتحقيق شفاف يضع حدا للغموض. أما على الصعيد الإقليمي فقد أثارت الأزمة مخاوف من تأثيرها على دور الجزائر في ملفات الساحل وليبيا والنيجر، حيث تشكل عنصر توازن حاسم. وتحدثت تقارير استخباراتية غربية عن تراجع نفوذ الجزائر بسبب انشغالها بصراعات داخلية، في حين رأت أطراف إقليمية أخرى أن هذا الارتباك قد يفتح الباب أمام تدخلات أجنبية جديدة.

وفي منتصف أكتوبر 2025 أعادت الصحف العربية والدولية طرح القضية بعد تسريبات تفيد بتوقيف ناصر الجن وإيداعه السجن العسكري بالبليدة. هذا التطور المفاجئ أنهى فرضية الهروب، لكنه كشف في الوقت نفسه حجم الانقسام داخل الأجهزة السيادية. فقد تبين أن الجن كان يتحرك خلال فترة اختفائه داخل البلاد تحت حماية جهة عسكرية نافذة، وأن توقيفه جاء نتيجة تسوية داخلية أكثر من كونه عملية أمنية. بذلك تحول الملف من حادث أمني إلى علامة على صراع عميق لإعادة توزيع النفوذ داخل النظام في مرحلة ما بعد تبون.

رابعا، الإعلام والروايات المتضاربة حول القضية:

أبانت الأزمة عن هشاشة الإعلام الجزائري الذي عجز  عن تجاوز الخطاب الرسمي في تغطيته للحدث، كما لم بنجح في تبديد الغموض الذي أحاط باختفاء مدير الأمن الداخلي، إذ وجدت الصحف الأجنبية، خصوصا الفرنسية، في الحادثة مادة تحليلية لكشف توازنات السلطة في الجزائر. فقد وصفت صحيفة لوموند ما جرى بأنه زلزال سياسي هز النظام القائم على شبكة ولاءات متقاطعة، فيما رأت منصات عربية أن الحدث جزء من حرب خفية بين ضباط المخابرات القدامى والجدد. أما الإعلام المحلي فقد بدا عاجزا عن ممارسة دوره المهني، مكتفيا بإعادة نشر البلاغات الرسمية، الأمر الذي أفقده مصداقيته ورسخ الانطباع بأن هامش الحرية الصحفية في الجزائر ضيق ومشروط.

في المقابل، ملأ الفضاء الرقمي فراغ الصمت الرسمي، فانتشرت عبر منصات التواصل روايات متناقضة بين فرضية الفرار إلى الخارج بمساعدة أطراف داخلية، وفرضية التصفية لإسكات شاهد على ملفات حساسة. وقد كشفت هذه الفوضى الرقمية عن أزمة أعمق تتمثل في غياب الثقة بين الدولة والمجتمع، إذ لم يعد المواطن يصدق الرواية الرسمية، ولا الإعلام المحلي الخاضع لرقابة غير معلنة. ومن المفارقات أن بعض النشطاء الجزائريين في المنفى باتوا أكثر تأثيرا على الرأي العام من الصحافة الوطنية، بما يبرز ضعف استراتيجية الاتصال السياسي للدولة. وهكذا تحولت قضية ناصر الجن إلى رمز لأزمة التواصل بين السلطة والمواطن، ودليل على أن النظام الذي يخشى الكلمة يفقد السيطرة على الرواية.

خامسا، الانعكاسات المجتمعية والسياسية للأزمة:

لم تقتصر أزمة ناصر الجن على بعدها الأمني والمؤسساتي، بل تجاوزته إلى المجتمع الجزائري الذي تلقى الحدث بقدر كبير من التوجس واللايقين. فقد رأت فئات واسعة من الشباب أن القضية تجسد استمرار ما يعرف بالدولة العميقة، فيما اعتبرت النخب المدنية أن الصمت الرسمي يعكس أزمة شفافية وغياب مؤسسات الوساطة بين الدولة والمجتمع. أما الطبقة السياسية، فانقسمت بين من يرى أن الأزمة شأن سيادي لا يجوز الخوض فيه، وبين من دعا إلى إعادة بناء الرقابة المدنية على الأجهزة الأمنية ودمقرطة القرار. وفي خضم هذا الانقسام، أبدى الشارع قدرا من اللامبالاة الممزوجة بالإحباط، تعبيرا عن فقدان الأمل في أي إصلاح داخلي حقيقي.

هذه الدينامية المجتمعية المتناقضة توحي بأن الجزائر تعيش تحولا بطيئا في الوعي السياسي، حيث بدأت تتشكل قناعة بأن أزمة السلطة لم تعد قضية أفراد بل قضية بنية دولة تقوم على الولاء لا على الكفاءة. وإذا استمرت مؤسسات الحكم في تجاهل هذا التحول، فإن موجات جديدة من المطالبة بالإصلاح قد تنبعث من رحم السخط الشعبي، وإن بصيغ أكثر تنظيما وأقل عفوية من حراك 2019. وبذلك، قد تكون قضية ناصر الجن الشرارة التي تكشف ارتجاجا بنيويا في النظام لا مجرد حادث أمني عابر.

سادسا، المسار البنيوي للدولة الجزائرية بين الأمن والسياسة:

تكشف الأزمة عن لحظة حاسمة في تاريخ الدولة الجزائرية الحديثة، حيث يتصارع داخلها نموذج الدولة الأمنية المنحدر من شرعية الثورة مع نموذج الدولة المدنية الساعية إلى الانخراط في منطق المؤسسات الحديثة. فالمفارقة الكبرى أن مؤسسات الدولة المدنية ما زالت تشتغل بعقلية أمنية، بينما تمارس الأجهزة الأمنية دورا سياسيا مباشرا من خلف الستار. هذا التداخل بين مجالي الأمن والسياسة خلق ازدواجية في وظائف الدولة، عطلت كل محاولات الإصلاح الهيكلي. وإن استمر هذا الوضع، فإن مسار التحول الديمقراطي سيظل مؤجلا، وستبقى أجهزة الدولة تدور في حلقة إعادة إنتاج الأزمة ذاتها.

إن ما حدث مع ناصر الجن لا يمثل حادثا استثنائيا، بل هو تجل بنيوي لأزمة دولة لم تحسم بعد موقعها بين الشرعية الثورية القديمة والشرعية المؤسساتية الحديثة. فالنظام الذي تأسس على منطق التحرير والمجاهدين لم ينجح في الانتقال إلى منطق الحكامة والمواطنة. وهذا ما يجعل كل محاولة إصلاح تصطدم بجدار من المصالح المتجذرة والولاءات التاريخية. ولذلك فإن الأزمة الأخيرة ليست نهاية فصل، بل بداية مرحلة إعادة تشكل بطيئة لبنية الدولة الجزائرية تحت ضغط التحولات الداخلية والإقليمية.

سابعا، آفاق المشهد السياسي ومستقبل النظام:

تضع أزمة ناصر الجن الدولة الجزائرية أمام مفترق طرق حاسم. فالنظام الذي اعتمد لعقود على توازن دقيق بين الرئاسة والجيش وأجهزة الأمن، بدأ يفقد قدرته على إدارة هذا التوازن بالأساليب التقليدية. لقد أظهرت الحادثة هشاشة المؤسسات أمام منطق الولاء الشخصي وغياب آليات الرقابة والمساءلة، مما جعل القرار السياسي حبيس دائرة ضيقة من الفاعلين. ومع تآكل الثقة في الدولة واحتقان الشارع، تزداد عزلة النظام في مواجهة مجتمع فقد الإيمان بقدرة السلطة على الإصلاح الذاتي.

وتبرز مستجدات أكتوبر 2025 دليلا على أن قضية ناصر الجن تجاوزت بعدها الفردي لتتحول إلى مؤشر على هشاشة البنية السياسية والأمنية الجزائرية في مرحلة انتقالية دقيقة. فالتناقض بين الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن الاستقرار، والواقع الميداني الذي يكشف ارتباكا في إدارة مؤسسات الدولة، يطرح سؤالا جوهريا حول مستقبل النظام ذاته. هل ستتجه الجزائر إلى إعادة هيكلة جذرية تحد من هيمنة الأجهزة على القرار السياسي، أم إلى انغلاق أكبر باسم الحفاظ على الأمن؟ الإجابة ستتوقف على مدى قدرة المؤسسة العسكرية على استيعاب دروس الأزمة، وعلى ما إذا كانت الرئاسة ستجرؤ على تحويلها إلى لحظة إصلاح حقيقي. فالقضية لم تعد تتعلق بمسؤول مفقود، بل أصبحت مرآة لسلطة تبحث عن شرعية جديدة في زمن ما بعد الدولة الأمنية.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة



Source link

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة