مجانية التعليم العالي بين الحق والمسؤولية

admin9 نوفمبر 2025آخر تحديث :
مجانية التعليم العالي بين الحق والمسؤولية


“العدالة ليست أن يتساوى الناس في الأخذ، بل أن يتكافؤوا في العطاء.”
أرسطو

بعد عرض وزير التعليم العالي عز الدين الميداوي أمام اللجنة البرلمانية لمقترح فرض مساهمة مالية محدودة على الموظفين الراغبين في متابعة دراساتهم العليا، عاد النقاش حول مجانية التعليم إلى واجهة الجدل العمومي. غير أن جوهر الإصلاح لا يتعلق بإلغاء المجانية، بل بإعادة ضبطها في إطار عدالةٍ تشاركية توازن بين الحق والمسؤولية. فوجب التوضيح والتفسير من أجل  تقريب الصورة وتصحيح المفاهيم وصولا إلى تلطيف المواقف وربما مراجعتها.

إصلاح التعليم العالي… نقاش يتجاوز الشعار

يشهد المغرب منذ أسابيع نقاشًا واسعًا حول إصلاح منظومة التعليم العالي، بعد طرح مقترحٍ جديد يسمح للموظفين والأجراء بمتابعة دراساتهم الجامعية المؤطرة رسميًا مقابل أداء رسوم محدودة، مع الاعتراف الأكاديمي بالدبلوم المحصل عليه.
وقد أوضح الوزير في العرض المشار إليه سابقا، أن هذا التوجه لا يمس مجانية التعليم، بل يندرج ضمن رؤية واقعية تجعل من العدالة والمشاركة أساسًا للاستدامة. فالمجانية – كما قال – تظل مبدأً دستوريًا في التعليم الأساسي، بينما التكوينات الخاصة بالمهنيين هي خدمات إضافية يمكن تنظيمها بمساهمات رمزية تضمن استمرارية الجودة وعدالة الولوج.

تحديد المفاهيم شرط لتجاوز الالتباس

ظلّ الجدل حول مجانية التعليم العالي في المغرب لسنوات رهين تصوّرٍ تبسيطي يخلط بين المجانية المطلقة والمسؤولية المشتركة. فكل حديثٍ عن مساهمة مالية يُصوَّر على أنه تهديد لمبدأ المجانية أو مقدمة لخوصصة التعليم.
غير أن الدستور المغربي، في فصله الحادي والثلاثين، ينص على أن الدولة تعمل على تعبئة الوسائل لتيسير استفادة المواطنات والمواطنين من التعليم، دون أن يمنعها من تنظيم أشكال تلك الاستفادة أو إقرار مساهماتٍ مبرّرة في بعض الخدمات الجامعية.
فالمجانية، في جوهرها، ليست نفياً لأي مقابل، بل هي أداة لتحقيق العدالة التعليمية. إنها تعني أن التعليم الأساسي متاح للجميع دون رسوم، لكنها لا تمنع الدولة من إحداث تكوينات أكاديمية إضافية موجهة لفئاتٍ عاملة قادرة على المساهمة في تكاليف التأطير والتجهيز. إن تصحيح هذا المفهوم لا يُضعف المجانية، بل يحميها من الفوضى وسوء التأويل.

الحق الدستوري في المجانية والمساهمة المحدودة

يشدد الدستور المغربي، في الفصل 31، على أن الدولة تعمل على تيسير استفادة المواطنين من التعليم، مؤكداً على التزامها بالمجانية كحق أساسي. ومع ذلك، ينص الدستور أيضًا على أن الدولة يمكنها تنظيم استفادة المواطنين من بعض الخدمات التعليمية، بما في ذلك تحديد مساهمات مالية محدودة عند تقديم تكوينات إضافية أو خاصة.
وبالتالي، فإن المساهمة الرمزية التي يُدفعها الموظفون لمتابعة دراساتهم الجامعية لا تُعد مساسًا بالمجانية، بل تنفيذًا دستوريًا للحق في التعليم مع مراعاة الاستدامة والجودة. فهي وسيلة لضمان تأطير أفضل، تجهيز مناسب، وتوفير برامج أكاديمية معترف بها رسميًا، دون الإخلال بحق الطلبة النظاميين في التعليم المجاني.

المساهمة المحدودة… حماية للعدالة لا مساس بالمجانية

إن فرض مساهمة مالية محدودة على الموظفين الراغبين في متابعة دراساتهم العليا لا يتنافى مع مبدأ المجانية، لأن هؤلاء لا يُعتبرون طلبة نظاميين ضمن المسارات الجامعية المفتوحة بعد البكالوريا، بل مستفيدين من تكوين أكاديمي إضافي خارج الزمن البيداغوجي العادي.
هذه التكوينات تتطلب موارد بشرية ولوجستية خاصة، ما يجعل المساهمة الرمزية (التي لا تتجاوز في المتوسط 15 ألف درهم سنويًا) صيغة منصفة توازن بين كلفة التأطير وقدرة المستفيد، وتحافظ في الوقت نفسه على الطابع العمومي للجامعة دون إثقال ميزانيتها.
فالمبلغ المدفوع هنا ليس ثمنًا للمعرفة، أو رسما للتمدرس، بل دعم تنظيمي يضمن جودة التكوين واستمرارية الخدمة العمومية، أي أنه وسيلة لحماية المجانية واستدامتها لا تقويضها.

تكوين معترف به رسميًا… بعد زمن من التفاوت

الميزة الجوهرية في التوجه الجديد أنه يمنح دبلومات معترفًا بها رسميًا من طرف الدولة (ماستر أو دكتوراه) بنفس القيمة العلمية التي يحصل عليها الطلبة النظاميون.
في المقابل، كانت التكوينات السابقة الموجهة للمهنيين تُكلف مبالغ مرتفعة (بين 30 و50 ألف درهم سنويًا) دون أي معادلة رسمية أو اعتراف مؤسساتي، مما جعلها أقل عدالة وأقل نجاعة.
النظام الجديد يقدّم تكوينًا أكاديميًا معتمدًا بكلفة رمزية، ويمنح فرصة حقيقية للترقي العلمي والمهني دون إرهاق مالي. فالمساهمة المالية هنا ليست ضريبة، بل استثمار في الكفاءة والاعتراف الرسمي، يرسّخ مبدأ تكافؤ الفرص داخل الجامعة العمومية ويعزز استدامتها المالية.

العدالة التشاركية بديلاً عن المساواة الشكلية

العدالة ليست مساواة شكلية، بل توازن بين الحقوق والواجبات. فمن غير العادل أن يستفيد موظف ذو دخل قار من تكوين جامعي خاص دون أن يُسهم في تكلفته، كما لا يجوز حرمانه منه بدعوى أنه “ليس مجانيًا”.
الحل في العدالة التشاركية، التي تجعل الأطراف الثلاثة شريكة في البناء:

  • الدولة تضع الإطار القانوني والمؤسساتي؛
  • الجامعة تنظّم وتؤطر؛
  • والمستفيد يساهم في حدود معقولة.

بهذه الصيغة، تُصان المجانية للطلبة النظاميين، وتُتاح فرص التكوين الأكاديمي للمهنيين في إطار من الإنصاف والتوازن. إنها عدالة واقعية تجمع بين المساواة في الحق والاختلاف في المسؤولية.

نحو جامعة عمومية منصفة ومستدامة

الجامعة العمومية ليست مجرد فضاء للتلقين، بل مؤسسة وطنية تجسّد قيم العدالة والمعرفة والانفتاح. ولكي تؤدي رسالتها، لا بد من تنويع خدماتها ومصادر تمويلها دون أن تفقد هويتها العامة أو رسالتها التنويرية.
تنظيم تكوينات أكاديمية موجهة للمهنيين بمساهمات رمزية لا يُضعف الجامعة، بل يقوّيها من حيث الاستدامة المالية والنجاعة البيداغوجية، كما يتيح تثمين جهود الأساتذة الذين يخصّصون وقتًا إضافيًا للتأطير خارج مهامهم الرسمية.
إن مفهوم المجانية في القرن الحادي والعشرين لم يعد يعني غياب الرسوم، بل ضمان الولوج المنصف إلى المعرفة وتوزيع التكلفة بعدالة. فلا تناقض بين المجانية والتمويل المشترك، ما دام الهدف هو خدمة الصالح العام وتوسيع دائرة الانتفاع بالتعليم العالي.

ختامًا: من شعار المجانية إلى الوعي بالعدالة

حين تتحول المجانية من شعارٍ جامد إلى وعيٍ بالمسؤولية والإنصاف، يصبح التعليم الجامعي جسرًا نحو العدالة الاجتماعية لا عبئًا على الدولة.
النقاش الحقيقي ليس حول المال، بل حول القيمة والعدالة: هل نريد مجانية شكلية تُرهق الجامعة وتحد من طموحها، أم مجانـية مسؤولة تشرك الجميع في بنائها؟
الطريق الواضح هو ترسيخ العدالة التشاركية التي تحفظ الحق وتُكرّس المساهمة، وتجعل من الجامعة المغربية نموذجًا للمرفق العمومي النزيه، المنفتح، والمستدام.

محمد براو، الباحث والخبير الدولي في الحكامة



Source link

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة