رغم الخطاب الرسمي حول تسريع الانتقال إلى اقتصاد رقمي وتقليص الاعتماد على السيولة، قال مجلس المنافسة إن الأبناك المغربية نفسها تتحول إلى عائق أمام هذا المسار، من خلال هيمنتها على مركز النقديات وممارساتها الاحتكارية التي كبحت سوق الأداء الإلكتروني وحصرته في نسبة هزيلة لا تتجاوز 1 في المائة من المعاملات، وهو ما جعل المؤسسات البنكية، بدل أن تكون رافعة للرقمنة، في قلب اتهامات مباشرة بعرقلة التطور الطبيعي للسوق وإفراغ جهود الدولة في هذا المجال من مضمونها.
وكشف مجلس المنافسة، في تقريره السنوي لسنة 2024 الذي اطلعت عليه “الصحيفة” عن معطيات صادمة تتعلق بمدى هيمنة الأبناك المغربية على سوق الأداء الإلكتروني، متهما إياها بالمساهمة في عرقلة تطوره نتيجة ممارسات اعتبرها منافية لقواعد المنافسة، موضحا أن مركز النقديات، الذي تساهم في رأسماله 11 مؤسسة بنكية، ظل لعقدين من الزمن الفاعل المهيمن شبه الوحيد على أنشطة الاستحواذ والتحويل النقدي، وهو ما أفرز وضعية احتكارية أثرت سلبا على دينامية هذا السوق الذي لا يمثل سوى 1 في المائة فقط من مجموع عمليات الأداء المنجزة بالمغرب.
ويبرز التقرير المذكور، أن المجلس انكب سنة 2024 على دراسة ملف شبهة ممارسات غير تنافسية نسبت إلى مركز النقديات وأضرت بشكل مباشر بشركة “NAPS SA” حيث أطلق مسطرة تحقيق شاملة كشفت عن اختلالات خطيرة في سوق الأداء الإلكتروني بالبطاقات، ورغم أن بنك المغرب فتح المجال رسميا أمام المنافسة منذ 2015 عبر الفصل بين نشاط الاستحواذ ونشاط التحويل النقدي، ظل مركز النقديات مهيمنا بشكل شبه مطلق، إذ استحوذ إلى حدود 2024 على نحو 97 في المائة من السوق، ما أدى إلى ممارسات أخلت بشكل واضح بقواعد المنافسة العادلة.
ولم يتوقف الأمر عند حدود السيطرة السوقية، بل تعمّق أكثر مع بنية الرسوم المطبقة، حيث رصد المجلس زيادات متتالية في العمولات المفروضة على التبادل النقدي بين سنتي 2012 و2019، ما انعكس سلبا على هوامش ربح المؤسسات المقتنية وأثقل كاهل التجار الذين وجدوا أنفسهم يتحملون تكاليف إضافية حدّت من قدرتهم على الانخراط في منظومة الأداء الإلكتروني، وهذه الوضعية، إلى جانب عوامل أخرى، ساهمت في كبح انتشار وسائل الأداء الحديثة بالمغرب، في وقت تتجه فيه الاقتصادات الصاعدة إلى تسريع وتيرة الرقمنة المالية.
ولمواجهة هذه الاختلالات، أفضت مسطرة التحقيق التي باشرها مجلس المنافسة إلى فرض تعهدات إلزامية على مركز النقديات والبنوك التسعة المؤسسة له، وذلك استنادا إلى المرسوم رقم 2.14.652 المطبق للقانون 104.12 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، وقد جاءت هذه التعهدات على مستويين بنيوي وسلوكي.
فعلى المستوى البنيوي، ألزم المجلس مركز النقديات بتفكيك بنيته التنظيمية وتفويت كافة العقود المتعلقة بأنشطة الاستحواذ والأداء الإلكتروني (Gateway e-commerce) لفائدة مؤسسات الأداء أو الشركات الفرعية المتخصصة التابعة للبنوك. كما ألزم المركز بالامتناع عن استقطاب عملاء جدد أو إبرام عقود اشتراك جديدة مع التجار في أنظمة البطاقات أو في خدمات بوابة الأداء الإلكتروني، وتحويل نشاطه إلى منصة تقنية محايدة لمعالجة عمليات الأداء لفائدة مؤسسات الأداء، مع ضمان الولوج العادل والشفاف إلى خدماته.
أما على المستوى السلوكي، فقد فُرض على البنوك المساهمة في مركز النقديات اقتناء جميع عقود اشتراك التجار التي أبرمت قبل صدور قرار المجلس لفائدة مؤسسات الأداء التابعة لها، مع وضع برنامج مطابقة لقانون المنافسة، وضمان استقلالية قانونية واقتصادية ومحاسبية لمؤسسات الأداء أو فروعها المتخصصة كما حُظر على هذه المؤسسات تسويق خدمات محطات الدفع الإلكتروني عبر كياناتها التابعة، حتى لا تستمر في استغلال وضعيتها المهيمنة.
وعلى صعيد التعريفة، ألزم القرار مركز النقديات والبنوك بعدم تطبيق أي عمولة عن التبادل النقدي تتجاوز سقف 0,65 في المائة، وهو السقف الذي حدده بنك المغرب بتشاور مع مجلس المنافسة. هذا التخفيض مثّل مكسبا مباشرا للتجار، إذ انعكس على الرسوم المقتطعة من معاملاتهم وفتح المجال أمام تحفيز أكبر لاستخدام الأداء الإلكتروني، خاصة مع التوسع التدريجي في التجارة الرقمية والخدمات غير النقدية.
واعتبارا من فاتح نونبر 2024، أُلزم المركز والبنوك بإمداد مجلس المنافسة بتقارير نصف سنوية مفصلة حول مستوى تنفيذ هذه التعهدات، وهو ما يشكل سابقة في مجال مراقبة هذا القطاع الحيوي. كما تم تشكيل لجنة تتبع مختلطة بين المجلس وبنك المغرب لدراسة الجوانب التقنية والاقتصادية والقانونية المرتبطة بالملف، على أن تُحال أي تطورات أو إخلالات على المجلس لاتخاذ القرارات المناسبة.
ويكون بهذا القرار مجلس المنافسة، قد بعث بإشارة قوية مفادها أن زمن هيمنة المؤسسات المالية على سوق الأداء الإلكتروني دون رقيب قد ولى، وأن حماية قواعد المنافسة تظل شرطا ضروريا لتطوير منظومة الدفع الحديثة بالمغرب، بيد أن الطريق لا يزال طويلا أمام رفع نسبة الأداء الإلكتروني إلى مستويات تعكس دينامية الاقتصاد الرقمي، فإن التعهدات المفروضة على الأبناك ومركز النقديات تمثل خطوة فارقة، سواء في كسر منطق الاحتكار أو في تقليص الكلفة على التجار والمستهلكين، ما قد يفتح المجال أمام منافسة فعلية تسمح بميلاد سوق أكثر عدلا وشفافية.



