الجزائر بين حكم العسكر وحلم الدولة المدنية المؤجلة  – الصحيفة

admin17 نوفمبر 2025آخر تحديث :
الجزائر بين حكم العسكر وحلم الدولة المدنية المؤجلة  – الصحيفة


حين نتتبع مسار الجزائر الحديثة، منذ اللحظة التي انسحب فيها آخر جندي فرنسي، ندرك بسرعة أن هذا البلد العربي الكبير لم يدخل عصر الدولة بالمعنى المؤسسي، بل دخل عصر السلطة، وبالتحديد سلطة العسكر، التي تحولت مع مرور الزمن من “جيش التحرير الوطني” الى جهاز سياسي واقتصادي وأمني يدير البلاد من خارج منطق الدولة.

وما جرى خلال ستة عقود كاملة لم يكن انتقالا نحو التجربة الدستورية الحديثة، بل كان رسوخا لنموذج حكم يقوم على ثلاث طبقات من القوة: قيادة عسكرية تمسك بالقرار، أجهزة استخبارات تنظم الداخل وتتحكم في المعارضة، وشبكات مالية ضخمة تنتفع من اقتصاد ريعي وتسبح في هامش غير مراقب.

هذا النموذج لم يولد دفعة واحدة، بل تشكل طبقة فوق طبقة، ومرحلة فوق مرحلة، الى أن أصبح نظاما موازيا أكبر من الدولة نفسها، وأكثر قدرة على الاستمرار من أي مؤسسة دستورية.

والبداية الحقيقية لهذه البنية، كما تشير وثائق تلك الفترة، كانت في السنوات الأولى بعد الاستقلال، حين انتقلت الجزائر من حرب التحرير الى حرب السلطة.  فقد خرجت فرنسا، لكن الذي لم يخرج هو الوعي العسكري بالهيمنة، ذلك الوعي الذي سيطر على مقولة أن من حرر هو من يحكم، وأن الشرعية الثورية هي المصدر الوحيد للسلطة.

وبسبب هذا التصور، لم تعط الدولة فرصة لتتكون بشكل طبيعي. فالحكومة الأولى جاءت محمولة على رافعة عسكرية، والمؤسسات المدنية كانت مجرد واجهة، والجيش كان يعتبر نفسه المرجع الأعلى في كل شيء.وهكذا، منذ اللحظة الأولى، تمت مصادرة السياسة، وتم تثبيت منطق الشرعية العسكرية فوق كل شرعية.

ومع مرور السنوات، وخاصة بعد وفاة هواري بومدين، بدأ يتشكل ما يمكن تسميته بالطبقة الصلبة للقوة في الجزائر. فقد ظهر داخل الجيش جناحان: جناح يمسك بالسياسة من الأعلى، وجناح يمسك بالأجهزة الأمنية من الأسفل. وشيئا فشيئا أصبحت الاستخبارات، بتركيبتها المعقدة، هي الحاكم الفعلي لكل ما يجري.

فهي التي تراقب الوزراء، وهي التي تدير الصحافة، وهي التي تحدد ما الذي يمكن أن يناقش في العلن وما الذي يجب أن يبقى في الظل. لقد تحولت الأجهزة الأمنية الى حكومة خفية لا تظهر في الصورة، لكنها تمسك بمفاصل الدولة، وتسيرها وفق ما تتطلبه معادلة السيطرة.

وفي مرحلة الثمانينيات، ومع الأزمة الاقتصادية الأولى، بدأ يظهر الى جانب الطبقتين الأوليين (الجيش والاستخبارات) عنصر ثالث، هو شبكات المال. هذه الشبكات، التي تتكون من رجال أعمال مرتبطين بالسلطة، بدأت تتضخم في ظل اقتصاد يعتمد على النفط والغاز.

وكانت النتيجة أن الدولة دخلت في تحالف غير معلن بين القوة العسكرية والسلطة الأمنية والمال الريعي. وهذا التحالف الثلاثي سيصبح لاحقا العقد الحديدي الذي يمنع أي تحول سياسي حقيقي. كل محاولة للإصلاح كانت تصطدم بهذا العقد، وكل انتخابات تتحول الى مجرد واجهة، لأن القرار الفعلي كان وما يزال في يد الطبقة العسكرية الأمنية والمالية.

وحين جاءت مأساة التسعينيات، برزت الطبقات الثلاث للقوة بأوضح صورها. فالجيش اتخذ قرار وقف المسار الانتخابي، والأجهزة الأمنية تولت إدارة الحرب الداخلية، وشبكات المال ازدهرت في ظل حالة الاستثناء.

لقد كان ما جرى بين 1991 و1999 لحظة كاشفة: الدولة كانت موجودة في الأوراق، لكن السلطة كانت في مكان آخر.بل إن تلك السنوات كرست حقيقة جديدة: أن المؤسسة العسكرية، حين تشعر بأن قواعد اللعبة ستخرج من يدها، لا تتردد في إعادة ضبطها بالقوة، حتى ولو أدى ذلك الى حرب أهلية تفقد فيها البلاد عشرات الآلاف من أبنائها.

وحين جاء عبدالعزيز بوتفليقة في نهاية التسعينيات، كان واضحا أنه لم يأت ليحكم، بل ليدير مرحلة انتقال تحتاج الى واجهة سياسية. بوتفليقة، كما تظهر الوثائق الدبلوماسية لتلك الفترة، جاء بدعم من الجيش، وتم تقديمه باعتباره رجل المصالحة. لكنه، في الجوهر، كان مجرد غطاء مدني لسلطة لا تريد أن تظهر في الواجهة.

وحين انتهت وظيفته السياسية، أو عندما احتاج النظام الى تغيير القناع، تم إخراجه من المسرح بالأسلوب نفسه الذي أُدخل به. ما يهم هنا ليس الشخص، بل البنية: الرئاسة لم تكن مؤسسة حقيقية، بل دورا من أدوار المسرح السياسي، بينما القيادة الفعلية كانت وما تزال في مكان آخر.

ومع بداية الحراك الشعبي عام 2019، بدا وكأن الجزائر تدخل مرحلة جديدة، مرحلة يخرج فيها الشعب الى الشارع ليعيد تشكيل ميزان القوة. لكن النظام لم يتغير، بل أعاد ترتيب نفسه. فقد استخدم الجيش موجة الغضب الشعبي لإزاحة بوتفليقة، لكنه لم يسمح للحراك بأن يتحول الى مشروع سياسي. ت

م تفكيك الحركة، واعتقال الأصوات القوية، وبقيت الطبقة الصلبة للقوة في مواقعها.لقد كان الحراك اختبارا للنظام، والنتيجة أن النظام وجد طريقة لتدوير الأزمة دون أن يغير جوهر السلطة.

ومع مرور السنوات الأخيرة، بدأ يظهر أن الطبقة الأولى للقوة، أي القيادة العسكرية، أصبحت تمارس دورا سياسيا كاملا: تعين الرئيس الذي تريد، وتسير الحكومة، وتحدد اتجاه السياسة الخارجية، خاصة في ملف العلاقات مع المغرب.

وهذا الملف الأخير أصبح، بمرور الوقت، ليس مجرد خلاف سياسي بين بلدين جارين، بل جزءا من العقيدة التي تبرر بها المؤسسة العسكرية استمرارها في الحكم.

فكلما واجه النظام أزمة داخلية، يرفع حرارة التوتر مع المغرب، كأنما يحتاج الى عدو خارجي ليوحد الداخل، أو على الأقل ليصرف الأنظار عن الملفات الحقيقية: الاقتصاد، البطالة، انهيار المؤسسات، غياب الدولة المدنية.

أما الطبقة الثانية للقوة، أي الأجهزة الأمنية، فقد تطورت من مجرد جهاز رقابي الى جهاز يتحكم في الرأي العام، وفي القضاء، وفي الفضاء الرقمي. وهي اليوم تمثل اليد الخفية التي تتحرك في كل الملفات، صغيرة كانت أم كبيرة. لا قانون يحكمها، ولا مؤسسة تستطيع محاسبتها. إنها الدولة العميقة بالمعنى الدقيق، لا المجازي.وما دام هذا الجهاز قائما بهذه القوة، فإن أي اصلاح سياسي حقيقي يصبح مستحيلا، لأن أي انفتاح سياسي يعني أن الاستخبارات ستفقد جزءا من قدرتها، وهذا ما لا يمكن أن تقبله.

أما الطبقة الثالثة للقوة، أي شبكات المال الريعي، فقد أصبحت أكبر من بعض الوزارات نفسها. فثروة الجزائر تدار خارج الميزانيات الرسمية، وتستفيد منها مجموعات اقتصادية مرتبطة بضباط سابقين ونافذين. وهذه المجموعات هي التي تمول السياسة في الخلفية، وهي التي تستفيد من بقاء النظام كما هو. ولذلك فهي تقف ضد أي تغيير يهدد مصالحها. وبهذا الشكل، أصبح الاقتصاد نفسه جزءا من منظومة السيطرة، لا مجالا للإنتاج أو التنمية.

وبالنظر الى هذه البنية الثلاثية، يمكن القول إن الجزائر ليست تعاني من أزمة حكومة، ولا أزمة رئيس، بل أزمة بنية سلطة. إن الدولة الرسمية، كما هي في الدستور، ضعيفة، بينما الدولة الحقيقية موجودة في الطبقات الثلاث: الجيش، الاستخبارات، والمال.

وهذه الثنائية بين الدولة الرسمية والدولة الفعلية هي ما يجعل الجزائر غير قادرة على النمو ولا على الانتقال الديمقراطي. فكل مؤسسة دستورية يمكن تغييرها بسهولة، لكن المؤسسة الحقيقية، المؤسسة العسكرية الأمنية والمالية، لا يمكن تغييرها لأنها فوق القانون وفوق الدولة.

والسؤال الحقيقي، الذي لا يريد النظام أن يواجهه، هو: الى متى يمكن أن يستمر هذا النموذج؟ الزمن يتغير. ريع النفط يتلاشى. المجتمع يزداد شبابا. النخب المثقفة تزداد وعيا. العالم يعيش ثورات تكنولوجية وسياسية لا ترحم الأنظمة المغلقة. والمغرب، في الجهة الأخرى، يتحرك نحو صعود استراتيجي إقليمي واضح.

وفي ظل هذه التحولات، يبدو أن نموذج الوصاية العسكرية لم يعد صالحا. فهو نموذج يعتمد على إدارة الأزمة وليس حلها، وعلى تأجيل المستقبل وليس بنائه.

إن مستقبل الجزائر لن يحسم في الانتخابات، ولا في البرلمان، ولا في الحكومة، بل في مكان واحد: هل ستقبل المؤسسة العسكرية يوما أن تتراجع خطوة الى الخلف لتسمح للدولة أن تتقدم خطوة الى الأمام؟ هذا هو السؤال الذي سيحدد مصير الجزائر في العقود القادمة. فدولة تحكم من الثكنة ليست دولة، وسلطة بلا شرعية ليست نظاما، وأمة بلا مؤسسات ليست وطنا مكتملا.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة



Source link

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة