عرف المغرب منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي دينامية مجتمعية ذات طابع احتجاجي شكل من خلالها الشارع متنفسا لتواصل صدامي بين مؤسسات الدولة ومطالب المجتمع التي جمعت بين مطالب سياسية وأخرى اقتصادية واجتماعية على حد سواء.
وغني عن الذكر أن هذه الديناميات الاحتجاجية كان لا بد لها من إطار ناظم يؤطرها. وإذا كانت انتفاضة عدي وبيهي وآيت باعمران سابقتين عن أي قواعد قانونية لضبط مثل هذه الأشكال الاحتجاجية، فإن ما تلاها وجدت نفسها أمام إطار قانوني شكل مستجدا في تاريخ التشريع المغربي، ويتعلق الأمر بظهير الحريات العامة الذي تم اعتماده ابتداء من سنة 1958.
وأخذا بعين الاعتبار لهشاشة مؤسسات الدولة ما بعد الاستقلال من جهة وتصاعد الحركات الاحتجاجية من جهة أخرى فإن التعاطي مع هذه الأشكال غالبا ما كان على حساب حرية التظاهر والاحتجاج ودفاعا عن الأمن العام والنظام العام بصفة عامة.
ولعل تواتر الاحتجاجات من انتفاضة الريف 58-59 إلى انتفاضة الدار البيضاء مرورا بأولاد خليفة لسنة 79 وانتفاضة 84 و14 دجنبر 90 وصولا إلى 20 فبراير 2011 وحراك الريف ثم أخيرا جيل Z، قد عرف مواكبة فعلية من طرف القوى الحية بالبلاد سواء تعلق الأمر بأحزاب سياسية بعينها أو نقابية شكلت في حينها صوتا واعيا في وجه مؤسسات الدولة ضدا على ما تم الاصطلاح عليه بسنوات الجمر والرصاص.
وقد كان من بين نتائج هذه المرافقة وهذه المواكبة إحداث أثر كبير على السلوك العام للمؤسسات وخاصة مع الإعلان عن محطتي الانتفال الديمقراطي والعدالة الانتقالية من أجل طي صفحة الماضي. ومما لا شك فيه أن هاتين المحطتين قد شكلتا مرحلة مفصلية لتيسير الانتقال إلى الديمقراطية، ومما لا شك فيه أيضا أن إرادة الانتقال كان لا بد لها من ضمانات دستورية وقانونية من أجل ضمان عدم تكرار ما مضى من انتهاكات جسيمة وفقا لمبادئ العدالة الانتقالية وخوض غمار دولة ما بعد الانتقال. في هذا السياق شكل دستور 2011 نقلة نوعية على مستوى هندسة العلاقة بين الشعب والمؤسسات وخاصة من خلال آليات تواصلية للمشاركة المواطنة فصلت فيها القوانين التنظيمية للجماعات الترابية بما يليق بإحداث تحول جذري في مجال المشاركة والانتقال من لغة الشارع إلى لغة المؤسسات عبر إبداء الرأي وتقديم العرائض والمشاركة في فضاءات التشاور العمومي بالإضافة إلى المبادرات الشعبية للتشريع وخاصة من خلال القانون 64-14 المتعلق بتقديم الملتمسات التشريعية.
إن المتتبع لتاريخ تطور المجتمعات وانتقالها من حالة الطبيعة الأولى إلى المجتمع المدني بمفهومه الواسع، يدرك تماما حجم الرهان الذي وضعه دستور 2011 ومعه مجموع المقتضيات القانونية ذات الصلة بالديمقراطية التشاركية بالمغرب بشكل يجعل من المشاركة المواطنة أولوية مقارنة بخيار الشارع الذي بات خيارا أخيرا للتفاعل مع واقع الحال.
في هذا الإطار ينبغي الوقوف عند مفارقة صارخة يمكن ملاحظتها من خلال “الخطاب” الرسمي لآلية الاحتجاج ما بعد دستور 2011، ففي الوقت الذي عرف فيه النسيج الجمعوي تطورا مهما – على الأقل على المستوى الكمي – استطاع من خلال ترافعه انتزاع الاعتراف الدستوري بأدواره وخاصة من خلال الفصل 12 من الدستور، تعرض هذا الأخير إلى انتقادات وهجومات حادة من طرف الوعي الجمعي المغربي ليضل خيار الشارع سيد الموقف مع حركة 20 فبراير وحراك الريف، ثم بعد ذلك جيل Z. إن المواقف الحادة تجاه الأحزاب السياسية والنقابات والنسيج الجمعوي على علة هذه الأدوات، يدفع المجتمع المغربي قاطبة إلى التشبث بحالة الطبيعة الأولى عوض تعزيز الانتقال إلى المجتمع المدني المنظم وتعزيز دولة المؤسسات عبر إحداث طفرة نوعية في صيرورة البناء الديمقراطي عن طريق التحول من الطبيعة المطلبية للمجتمع إلى تتبع السياسات العمومية والبرامج الترابية والتأثير في صيرورة اتخاذ القرار في حينه عن طريق التحول إلى قوة اقتراحية وعبر آليات تشاركية باتت قائمة وفي غياب تفاعل وانخراط إيجابي في هذا المسار.
إن مطلب التغيير الذي شكل مطلبا عرضانيا منذ ستينيات القرن الماضي يضل مطلبا مهزوزا في غياب تحليل دقيق لأدوار الفاعلين المؤسساتيين منهم والمدنيين بالإضافة إلى دور “المواطنين والمواطنات” في صيرورة التغيير عبر المشاركة الفعلية كما أكدت على ذلك الباحثة الأمريكية “شيري أرنشطاين”.
ولعل ضعف فعلية المشاركة وفقا للتقارير الرسمية للمديرية العامة للجماعات الترابية يجعل من شعار “الحق في الاحتجاج” شعارا تبريريا يبرر حالة السكون السياسي لعقلية الاحتجاج وترسيخ المقاربة المطلبية التي تطبع مع دور المتلقي للخدمات عوض المشاركة في إنتاج هذه الخدمات وتحصين الحقوق.
إن الديمقراطية بما هي مفهوم قائم على حكم الشعب نفسه بنفسه، تقتضي أن يكون التغيير قائم على انتظام حقيقي للشعوب وجهد قاعدي حقيقي قادر على إحداث التوازن بين سلطة المؤسسات وسلطة الشعب وفقا لمقولة مونتيسكيو “السلطة لا تحدها إلا سلطة موازية”. فهل يمكن اعتبار مقتضيات الديمقراطية التشاركية فرصة لتقويم مسارات اتخاذ القرار المؤسساتي، أم يظل الشارع سيد الموقف في غياب تقييم موضوعي لنتائج تاريخ الاحتجاجات بالمغرب؟
يظل هذا السؤال سؤالا جوهريا يقتضي إعمال الفكر العلمي من أجل سلوك سياسي واعي بعيد عن كل أشكال التوظيف والتحريض العاطفي أو المقصود والذي يجعل من الاحتجاج مجرد ردة انفعالية تجاه واقع هارب وغير متحكم فيه، يحتاج إلى انخراط منظم في صيرورة البناء الديمقراطي وتتبع حقيقي لتنازع المصالح، كما يحتاج إلى كفاءة علمية تجعل من الممارسة السياسية ذات جدوى وقادرة على إبداع الحلول الآنية والاستراتيجية.
إن خاتمة أي فعل سياسي هو اتخاذ القرار المناسب والجواب الملائم لإشكالات المجتمعات وليس فقط الاحتجاج على القرارات الجائرة، وهو الشيء الذي يتطلب مشاركة مجتمعية فعلية بمقاربة استباقية تستبق السقوط في مطبات التخلف وتستشرف مستقبلا واعدا تبنيه الشعوب بوعيها وجهدها ومشاركتها وليس عبر تفويض مصيرها للقدر ولكل أشكال الانفعال المناسباتي.
باحثة في العلوم السياسية-



