لا أحد فهم ما الذي كان أعضاء الحكومة يقصدونه عندما قرروا جميعا، تقريبا، نزع سُتراتهم والظهور في اجتماع “الأزمة” المفترض، الذي عُقد يوم أمس الثلاثاء، بقمصانٍ بيضاء وهم يناقشون تبعات احتجاجات “جيل زِد”، الذي كان حِراكه، إلى وقت قريب جدا، يتمحور حول الصحة والتعليم والتشغيل والعدالة الاجتماعية وإسقاط الفساد.
إن كان من شيء ذكَّرت به “الصورة الرسمية” لذلك الاجتماع، فهو وِزرة الأساتذة والأطباء، الذين يشتغلون اليوم، سنة 2025، داخل المدارس والمستشفيات العمومية، في ظروف أدنى بكثير مما كان يشتغل فيه سابقوهم خلال الثمانينات والتسعينات، وبذلك تكون الحكومة، كما العادة، قد سجلت “هدفا تواصليا” جديدا، لكن في مرماها.
الحقيقة، أن فَهم مقصِد الحكومة الآن لا يهم، ولن يُجدي، لأننا اعتدنا طيلة 4 سنوات مرَّت من عمرها الدستوري، تشمل نسختيها “أخنوش 1” و”أخنوش 2″، ألا نفهم منها شيئا، لا نُقطة الانطلاق ولا نقطة الوصول ولا المسار، لكن الشيء الثابت مساء أمس كان هو أن العديد من المناطق في المغرب عاشت ليلة “سوداء”، عكس لون قُمصان أعضاء الحكومة تماما.
الليلة ما بين 30 شتنبر و1 أكتوبر 2025، كانت كارثة بكل المقاييس، ليس فقط بسبب أعمال الشغب التي اندلعت خلال المواجهات مع عناصر الأمن، بما شمل إحراق سياراتهم وتسجيل إصابات متفاوتة الخطورة في صفوف الأمنيين والمحتجين معًا، بل أيضا لأن هذا التاريخ كان نقطةَ البداية في تسلُّق مُجرمين، بأتم معنى الكلمة، لمطالب اجتماعية صرفة.
أولئك الذين انتشرت صورهم وهم يحرقون السيارات ويكسرون واجهات الأبناك وينهبون المحلات التجارية ويُدمرون الصيدليات، ليسوا سوى انعكاس لفشل آخر متراكم في المغرب، ينضاف إلى فشل الحكومة في توفير تعليم جيد ومستشفيات تؤدي أدوارها وفرصِ شغل مناسبة، فشلٌ مصدره الأسرة هذه المرة، وهو الفشل التربوي، فهؤلاء الذين امتدت أيديهم للمتلكات العامة والخاصة، هم نِتاج المنظومة الأخلاقية نفسها التي تجعلهم يعتقدون أن من حقهم تكسير الأشجار في الشوارع والحافلات الجديدة وكراسي الملاعب وسرقة صنابير المراحيض العمومية وعلامات التشوير وصناديق القمامة ومصابيح المدارس…
المتورطون في تلك الفوضى، مَنَحُوا أفضل هدية لعزيز أخنوش وحكومته، ولجوقة المُسبِّحين باسمه وبأمواله وبسُلطته، لاستدعاء خطاب “التآمر”، وشيطنة كل شيء بما في ذلك المطالب الاجتماعية التي تدخل في صميم الحقوق الدستورية، وهو كلام جاء بالفعل على لسان رئيس الحكومة في أول تفاعل شفوي مع ما يجري قبل ساعات قليلة ظهور “الملثمين” الذين عاثوا في الأرض فسادا.
ومع ذلك، ودون أدنى تبرير للإجرام الذي حصل، دعونا لا ننسى أن المقاربة الأمنية التي وُوجهت بها احتجاجات “جيل زِد” في الرباط والدار البيضاء وطنجة وغيرها من المدن الكبرى، في أولى خرجاتها السلمية يوم السبت 27 شتنبر 2025، كانت منفصلة عن أي منطق سليم، وكان يُمكن لأي شخص استفاد من دروس التاريخ أن يستنتج أن العنف سيؤدي إلى عنف مضاد، وأن هناك “بلطجية” يتحينون أنصاف الفرص للخروج عن النص، انطلاقا من قناعة ساذجة مفادها “خليها تشعل”.
علينا أيضا ألا نتجاهل أمرا مهما آخر، وهو أن أغلب مظاهر الشغب والفوضى جرت بجهة سوس – ماسة، وتحديدا في آيت عميرة وإنزكان وأكادير، وللمفارقة فإن هذه المنطقة هي الخزان الانتخابي لعزيز أخنوش وحزب التجمع الوطني للأحرار، على اعتبار أنه ابن سوس، وهو أيضا عُمدة أكادير إلى جانب كونه رئيسا للحكومة، وهو ما يعني تلقائيا أن “رجل الأعمال” الثري جدا، لم ينجح طيلة 4 سنوات في “إراحة” المغاربة لا على المستوى الوطني ولا الجهوي ولا المحلي.
طيب، الآن ماذا بعد؟
أولا وقبل كل شيء، علينا جميعا أن ألا نجعل المطالب الاجتماعية الواضحة والمباشرة مطيةً لأي نوع من الانحرافات، وأن نُلِحَّ على أن من تورطوا في تلك الفوضى يجب أن يحاسبوا وأن يُعاقبوا، كما علينا أن نرفُض أي محاولة لتناسي النقاش الأصلي أو مراوغته، وهو النقاش المرتبط بأزمات التشغيل والصحة والتعليم والعدالة المجالية… التي تفاقمت في عهد الحكومة الحالية، والتي يُفترض فيها أنها “حكومة كفاءات”، وأن نتذكر أن الذي أعلن ذلك قبل “جيل زِد” هي المؤسسات العمومية، بما في المندوبية السامية للتخطيط وبنك المغرب والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وقبلهما معًا المؤسسة الملكية عبر خُطب عاهل البلاد، وآخرها في الذكرى السادسة والعشرين لجلوسه على العرش قبل شهرين.
اليوم على أخنوش أن يكتفي من تسويق الوهم الذي لم يعُد يصدقه حتى حلفاؤه في الحكومة، وأن يعترف أنه ومن معه “لم ينجحوا”، وفق التعبير الدبلوماسي المُخفف الذي استعملته فاطمة الزهراء المنصوري، وزيرة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، بل إنهم، بالتعبير الواضح الصريح المباشر “فشلوا”، خصوصا في الملفات الاجتماعية، التي اعتقد رئيس الحكومة أنه حقق فيها “الإعجاز” حين مدَّ لأكثر المغاربة فقرا وعِوزا 500 درهم شهريا باليد اليمنى، ونزعها باليد اليسرى من أي شخص عبأ رصيده الهاتفي بـ50 درهما أو اشترى مصباحا إضافيا لمنزله.
على أخنوش أن يخرج من “قوقعته” التي أحاط نفسه داخلها منذ 2021 على الأقل، والمُكونة من “ذوي القربى” الحزبية وقدماء العاملين في مشاريعه العائلية، ومجموعة من الانتهازيين الذين يرون في “سي عزيز” طريقًا سالكا للمهام الحكومية والأمان الوظيفي والمصلحة الاقتصادية دون خبرة ولا استحقاق، وأن ينزل إلى الشارع حقيقةً ومجازًا… هذا الشارع الذي لم تقوَ تلك القوقعة على التعامل مع أصغر جيل فيه سِنًّا، وأكبره عددا واطِّلاعا وقدرة على فهم الحقوق والواجبات.
ختاما، الإصلاح لا يكون بالقمصان البيضاء، بل بالأيدي البيضاء، والنوايا البيضاء.



