زنقة 20. الرباط
إن القراءة المتمعنة لمضامين الخطاب الملكي الذي ألقاه الملك محمد السادس بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية الحادية عشر تفضي إلى كونه يقدم نسقا مترابطا ينطلق من تأطير المواطن وبناء ثقافة النتائج، إلى تجذير العدالة الاجتماعية والتنمية الترابية، وصولا إلى ترجمة العدالة المجالية في السياسات العمومية المندمجة.
ولقد شملت مضامين الخطاب الملكي ثلاثة ركائزمندمجة، تتعدى خارطة طريق تنموية إلى تصور للدولة كفاعل استراتيجي عاقل ومتفاعل مع نبض المجتمع، تشكل حلقات ضمن رؤية واحدة قوامها المواطنة الواعية، الفعل المؤسساتي، والتنمية المتوازنة.
تأطير المواطنين وتكريس ثقافة النتائج شكل ركيزة أولى للخطاب السامي، والتي تصبو إلى الانتقال من منطق التلقين إلى منطق التأطير والمواكبة، حيث دعا الملكإلى “إعطاء عناية خاصة لتأطير المواطنين، والتعريف بالمبادرات العمومية”، معيدا بذلك تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس الشفافية التواصلية والمواطنة الواعية. ليكون ذلك دعوة تتجاوز الإخبار لتؤسس لما يمكن تسميته بـالديمقراطية التفاعلية، حيث يصبح المواطن طرفا فاعلا في الفعل العمومي، لا مجرد متلق للقرارات.
وإذ تبرز هنا الأهمية القصوى لتجاوز الزمن الحكومي والبرلماني نحو منطق الاستمرارية، حيث أن القضايا التي تهم الحقوق والحريات والتنمية لا تقاس بدورات انتخابية قصيرة، بل بمدى رسوخها في بنية الدولة ومؤسساتها. فالإشارة إلى “ترسيخ ثقافة النتائج”، تحمل دلالات تروم ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتجاوز منطق الوعود إلى منطق الفعل القابل للقياس.
أما الركيزة الثانية لخطاب افتتاح البرلمان، فقد تمثلت في العدالة المجالية كتوجه استراتيجي يحكم السياسات العمومية، إذ أكد الملك محمد السادس أن العدالة “ليست مجرد شعار فارغ أو أولوية ظرفية”، واضعا إياها كرهان مصيري، وليست خيارا سياسيا قابلا للتفاوض، بل مبدأ تأسيسيا في بنية الدولة الاجتماعية الحديثة. ويرتبط هذا التوجه مباشرة بفكرة “التنمية المحلية مرآة التقدم الوطني”، كتأكيد على أن المغرب المتقدم لا يقاس من المركز، بل من الأطراف، وأن كل رهان على “المغرب الصاعد والمتضامن” يمر عبر ردم الهوة بين المجالات، وتمكين الفاعلين المحليين من أدوات القرار والمبادرة.
أما ثالث الركائز فقد تطرق للعدالة المجالية كترجمة عملية للتنمية المندمجة، إذ أبرز الملك ضرورة “إعادة النظر في تنمية المناطق الجبلية” و”توسيع نطاق المراكز القروية الناشئة“، في مقاربة مندمجة تراعي الخصوصيات الجغرافية والسوسيو-اقتصادية، ما يجعلها نموذجا للتنمية العادلة التي تنطلق من الواقع بدل أن تفرض عليه من المركز. كما أن التركيز على “تقريب الخدمات الإدارية والاجتماعية والاقتصادية” الشيء الذي يجسد العدالة المجالية في بعدها العملي، أي تحويل مفهوم “الإنصاف الترابي” من شعار إلى ممارسة يومية تلمسها الفئات الهشة.
وتكمن القوة هنا في الجمع بين الرؤية الماكرو-تنموية المتجسدة في إعادة التوازن الترابي على الصعيد الوطني، والمقاربات الميكرو-عملية التي تولي أهمية للمراكز القروية الناشئة وإدماج المناطق الجبلية، وهو ما يمنح الخطاب طابعا تنفيذيا واضحا يتجاوز التنظير.
ومن هذا المنظور، فإن الركائز الثلاث التي حملها خطاب افتتاح البرلمان تتراص وتلتقي في كونها نسقا يقدم رؤية واحدة قوامها المواطنة الواعية، الفعل المؤسساتي، والتنمية المتوازنة وتصورا يضع الدولة كفاعل ومتفاعل مع انتظارات المواطنين.




