شهدت المملكة المغربية خلال السنوات الأخيرة تحولات عميقة في مجال النقل الجوي، انعكست بشكل مباشر على دينامية السياحة الداخلية والخارجية، وكان لشركة الطيران منخفض التكلفة “ريان إير” دور بارز في هذا التحول، حيث باتت هذه الشركة الإيرلندية التي رسخت حضورها في السوق الأوروبية كخيار اقتصادي بامتياز، (باتت) اليوم لاعبا أساسيا في إعادة رسم خريطة السفر بالمغرب، سواء بالنسبة للمغاربة أو السياح الأجانب.
ودخلت “ريان إير” إلى السوق المغربية منذ سنوات بخطوط دولية ربطت المملكة بعدد من المدن الأوروبية الكبرى، لكنها سرعان ما انتقلت إلى مرحلة جديدة وحاسمة تمثلت في إطلاق أول شبكة داخلية من نوعها في تاريخ الشركة على الإطلاق، وبذلك، لم تعد “ريان إير” مجرد ناقل جوي ينقل السياح من الخارج إلى المدن المغربية، وإنما تحولت إلى رافعة للنقل الداخلي، مما منح المغاربة خيارا جديدا في تنقلاتهم داخل وطنهم.
ووفق العديد من الفاعلين في القطاع السياحي بالمغرب، فإن هذا التحول لم يقتصر على البعد الداخلي فحسب، بل يلتقي مع دفعة قوية على مستوى استقطاب السياح الأجانب، حيث ساهمت الرحلات منخفضة التكلفة في جعل المغرب أكثر تنافسية على الخريطة السياحية العالمية، حيث حققت مطارات المملكة نسب نمو استثنائية في 2024 و2025، خاصة في وجهات مثل مراكش وأكادير والرباط، فيما عرفت الأسواق الأوروبية الرئيسية، كالمملكة المتحدة وإيطاليا، ارتفاعا ملحوظا في أعداد السياح الوافدين عبر الرحلات الجوية التي تشغلها “ريان إير”.
التشغيل الداخلي.. الاتفاق الأول من نوعه لـ”ريان إير” مع المغرب
يُعد المغرب أول بلد في العالم يوقع مع “ريان إير” اتفاقا خاصا بتشغيل شبكة رحلات داخلية، وهو ما يُعد سابقة في تاريخ هذه الشركة التي بنت استراتيجيتها العالمية على الرحلات العابرة للحدود داخل أوروبا، وقد أعلنت الشركة في صيف 2024، عن استثمار ضخم بلغ 1.4 مليار دولار أمريكي في المملكة، شمل تشغيل 11 مسارا داخليا جديدا يربط تسع مدن مغربية، من بينها مراكش، وفاس، وطنجة، ووجدة، وتطوان، وورزازات، والصويرة، أكادير، والعيون.
وحسب قراءة العديد من الفاعلين في القطاع السياحي، فإن هذا الاتفاق لم يكن مجرد صفقة تجارية، بل خطوة استراتيجية تحمل في طياتها أبعادا اقتصادية وتنموية، ففتح خطوط جوية بأسعار منخفضة بين مدن مغربية لطالما عانت من ضعف الربط الجوي، مثل ورزازات والرشيدية والصويرة، يعني كسر عزلة هذه المناطق، وإتاحة فرص جديدة للاستثمار والسياحة المحلية، كما ساعد على إعادة توزيع الحركة السياحية التي كانت متركزة بشكل شبه حصري على محور الدار البيضاء-مراكش، باتجاه مدن أخرى.
وتتجلى أيضا أهمية هذه الخطوة، وفق المصادر نفسها، في كونها جاءت بدعم مباشر من وزارتي النقل والسياحة والمكتب الوطني المغربي للسياحة، ما يعكس وعيا رسميا بأن تعزيز الربط الجوي الداخلي هو جزء لا يتجزأ من تطوير العرض السياحي الوطني، فالطائرة لم تعد وسيلة لنقل السياح الأجانب فقط، بل أداة استراتيجية لتنمية السياحة الوطنية وتحقيق التوازن بين الجهات.
خيار جديد غيّر عادات المغاربة في السفر
قبل دخول “ريان إير” إلى مجال النقل الداخلي، كان السفر بين المدن المغربية رهينا إما بخيارات تقليدية مثل الحافلات والقطارات، أو بخطوط جوية محدودة العدد وأسعارها غالبا ما كانت مرتفعة، مما كان يجعل الطائرة خيارا نخبويا بالنسبة لفئات واسعة من المواطنين، لكن مع تدشين الشركة الإيرلندية لأول رحلاتها الداخلية في مارس 2024، تغير المشهد بشكل لافت، لدرجة أن وصفه العديد من المسافرين المغاربة بأنه “ثورة” في السفر الداخلي.
فاليوم، أصبح بإمكان المغاربة التنقل من مراكش إلى تطوان أو من فاس إلى أكادير بأسعار تبدأ من بضع مئات من الدراهم، وفي أوقات مرنة تتيح السفر لعطلة نهاية الأسبوع أو لرحلة عمل قصيرة، الأمر الذي خلق دينامية جديدة في سوق النقل الداخلي، وأعاد تعريف مفهوم السفر بالنسبة لشرائح واسعة من العائلات والشباب المغاربة، الذين وجدوا في الرحلات منخفضة التكلفة وسيلة عملية لاكتشاف مناطق بلادهم.
كما أن هذه الخدمة الجديدة أسهمت في خلق جسور غير مسبوقة بين المدن المغربية، فمغاربة الشمال بات بإمكانهم الوصول بسرعة إلى الجنوب، وسكان الوسط أصبحوا أكثر قربا من المناطق الصحراوية، الأمر الذي عزز التقارب الجغرافي والروابط الاجتماعية والاقتصادية بين الجهات، وساهم في إعادة توزيع الطلب السياحي على نطاق وطني.
ولم يقتصر الأمر على المغاربة فقط، بل استفاد السياح الأجانب أيضا من هذه الخطوط الداخلية، إذ بات بإمكانهم، مثلا، النزول في مراكش ثم التوجه مباشرة إلى ورزازات أو الصويرة أو العيون دون الحاجة للعودة إلى مطار الدار البيضاء، وهو ما يطيل مدة إقامتهم في المغرب ويزيد من إنفاقهم السياحي.
بوحوت: النقل الجوي أحدث دينامية سياحية ودور “ريان إير” بارز
قال الخبير في القطاع السياحي، الزبير بوحوت، إن القطاع السياحي المغربي يشهد دينامية غير مسبوقة، مدفوعةً بتوسع النقل الجوي الذي استقبل حوالي 11,8 مليون وافد عبر الجو سنة 2024، أي ما يمثل نحو 67 في المائة من إجمالي الوافدين الذين بلغ عددهم 17,41 مليون سائح في العام نفسه.
وأضاف بوحوت في حديث لـ”الصحيفة” أن الملاحظ هو أن الوافدين جوا سجلوا ارتفاعا بنسبة +23% مقارنة بعام 2023، بينما ارتفع إجمالي الوافدين بمعدل +20%، ما يوضح أن نمو الوصول الجوي في 2024 فاق النمو العام للواردين إلى المملكة، موردا أنه خلال الفترة من يناير إلى غشت 2025، بلغ عدد الوافدين جوا حوالي 9,36 مليون سائح، أي ما يعادل 69% من إجمالي الوافدين البالغين 13,54 مليون سائح في هذه الفترة، مع تسجيل نمو بنسبة +16,52% عبر النقل الجوي مقابل +15% لإجمالي الوافدين، ما يوضح استمرار تفوق نمو الوصول الجوي على النمو العام للوافدين إلى المغرب.
وفي هذا الإطار، يتابع الخبير السياحي المذكور، تبرز شركة “رايان إير”، إلى جانب عدد من شركات الطيران الأوروبية الأخرى، كشريك استراتيجي لدعم هذا النمو، مشيرا إلى أنه بفضل شبكاتها الواسعة وأسعارها التنافسية، تمكنت هذه الشركات من تسهيل الربط المباشر بين مختلف المدن الأوروبية والوجهات المغربية، ما ساهم في تعزيز جاذبية المملكة لدى أسواق رئيسية مثل المملكة المتحدة وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا.
وحسب الزبير بوحوت، فقد انعكس هذا الدور الإيجابي على الأداء الجيد لمطارات المملكة، حيث سجلت مطارات مراكش (+33% في 2024 ثم +12% في 2025) وأكادير (+35% ثم +13% في 2025) والرباط (+42% ثم +35% في 2025) نموا استثنائيا، بفضل رحلات مباشرة ومنخفضة التكلفة، مما أتاح توزيع الحركة السياحية على مختلف الجهات وتعزيز التنمية الجهوية بعيدا عن الاعتماد الحصري على مطار الدار البيضاء.
كما ساعدت هذه الدينامية، وفق المتحدث نفسه، على تنويع شرائح المسافرين، إذ اجتذبت الرحلات منخفضة التكلفة فئات واسعة من الشباب والعائلات ومحبي العطلات القصيرة، وهو ما رفع من تنافسية المغرب على خريطة السياحة العالمية، مسجلا نموا قويا في الأسواق الأوروبية، لاسيما المملكة المتحدة (+47% في 2024 ثم +25% في 2025) وإيطاليا (+35% ثم +22% في 2025)، وهي أسواق تعتمد بدرجة كبيرة على رحلات الشركات الاقتصادية وفي مقدمتها “رايان إير”.
واعتبر الخبير السياحي، الزبير بوحوت، أن استمرار ارتفاع عدد الوافدين عبر الجو بين عامي 2024 و2025، مع زيادة حصتهم من إجمالي السياح من 67% إلى حوالي 69%، يبرز بوضوح الدور المحوري لشركات الطيران منخفضة التكلفة، وفي مقدمتها “رايان إير”، في دفع عجلة السياحة المغربية وضمان استدامة هذا النمو على الصعيدين الوطني والجهوي، خاصة وأن النمو عبر النقل الجوي (+16,52 %) يتفوق على النمو العام للوافدين (+15 %) في 2025، مما يعكس أهمية تعزيز الشبكات الجوية ودعم الرحلات المباشرة من الأسواق الأوروبية.
بشكل عامل، يرى عدد من الفاعلين والخبراء في المجال السياحي، أن دخول “ريان إير” بقوة إلى السوق المغربية لم يكن مجرد إضافة عرض جديد في سوق الطيران، بل نقطة تحول حقيقية في قطاع النقل والسياحة بالمغرب، فمن خلال أول شبكة داخلية في تاريخها، ساهمت الشركة في تغيير عادات السفر لدى المغاربة، وفتحت الباب أمام إعادة توزيع الحركة السياحية وطنيا، وبفضل أسعارها التنافسية وشبكتها الواسعة، أسهمت في تعزيز مكانة المغرب كوجهة سياحية مفضلة في الأسواق الأوروبية.
كما أن المعطيات الرقمية التي تؤكد تفوق نمو النقل الجوي على النمو العام للسياحة، يبرز بوضوح أن “ريان إير” ليست مجرد ناقل اقتصادي، بل شريك استراتيجي في التنمية السياحية للمملكة. وما بين الرحلات الداخلية التي كسرت عزلة مدن مغربية، والخطوط الدولية التي عززت جاذبية الوجهات السياحية، يجد المغرب نفسه أمام مرحلة جديدة، يُتوقع أن تحمل المزيد من الفرص في أفق 2027، عندما تسعى الشركة لمضاعفة عدد مسافريها نحو المملكة إلى أكثر من 10 ملايين.



